إن «كلام الله»، الذي حملته نصوص «آيته العقلية القرآنية» المعاصرة للناس اليوم، يستحيل أن يقيم حضارة إنسانية في الهواء، أو على الماء، ولا بقراءات سلفية أو عصرية تُنشر في آلاف الكتب ومئات الفيديوهات.
فهل استطاع «كلام الله» الموجود في كل بيت من بيوت المسلمين، وفي كل مسجد من مساجدهم، أن يواجه منظومة التخلف الديني والحضاري والاجتماعي التي يعيشون بداخلها؟!
وبعد أن ضاعت الأمة الإسلامية، وضاعت خيريتها، وضاعت حضارتها، إذا بسهام الإلحاد تنطلق من قاعدة الضياع فتصيب قلوب المسلمين، وتجعلها ترضى بـ «ما هو كائن» باعتبار أنه «ما يجب أن يكون»!!
وأصبح الإلحاد في «آيات الله»، وفي أحكام «شريعته» مكونًا أساسًا في منظومة «الفكر الديني»، ولم يعد «دين الإسلام» دين المسلمين في الشهادة على الناس وإخراجهم من الظلمات إلى النور!!
لقد ذابت حياة المسلمين وانصهرت في «بوتقة الدنيا» وأصبحت أسيرة التفسير «المادي» للوجود، الأمر الذي يُفسر لماذا سارعت قلوب المسلمين إلى اتباع ظاهرة الإلحاد في أحكام القران بهذه «السرعة الجنونية»؟!
أولًا:
يقول القوم:
إياكم أن تظنوا أن «الجنة» لها طول وعرض، استنادًا إلى قوله تعالى في سورة آل عمران «الآية ١٣٣»:
* «وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ»
لأن «العرض» هنا معناه «Exhibition»، «أي معرض»!!
فالجنة هي هذه السماوات والأرض المعروضة أمام الناس!!
أقول:
١- الحقيقة، لا لغة عربية، ولا علم سياق، ولا حتى منطق!!
الله تعالى يقول في وصف «الجنة» … «عَرْضُهَا» …. أي عرض هذه الجنة …. «السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ»!!
فما علاقة المَعْرَض «Exhibition»، وعرض الأشياء، هنا؟!
٢- إن الله تعالى عندما يحدثنا عن شيء «معروض» يستخدم الصيغة الدالة على ذلك، فيقول تعالى:
* «وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفّاً لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً»
* «النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ»
٣- عندما نجد سياقًا آخر في وصف الجنة، يقول الله تعالى فيه:
* «سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ..»
ونضع الجملة الأولى أمامنا:
* «وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ»
وتحتها الجملة الثانية:
* «وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَـ عَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ»
نعلم أن المعنى ليس على سبيل الحقيقة، وإنما على سبيل «المجاز»، بقرينة:
– استخدام أداة التشبيه « كـ » في وصف الجنة:
«عَرْضُهَا كَعَرْضِ».
– استخدام الأساليب المجازية التي كان يعلمها العرب، فالعرب تستخدم «العرض» بمعنى «السعة»، فيقولون:
«بلاد عريضة»، و«دعوى عريضة»..، فيجعلون «العرض» كناية عن «السعة».
– إن اختيار «العرض» دون «الطول» لأنه أقصر الامتدادين، فإذا كان عرض «الجنة» أوسع ممَّا يمكن أن نتخيله حسب الصور الذهنية التي انطبعت في قلوبنا ونحن في عالم الشهادة، فكيف بطول «الجنة»؟!
٤- إن أي «تفسير مادي» لمفردات هذه الآية وغيرها من الآيات التي تتحدث عن «عالم الغيب»، لا محل له من الإعراب، ذلك أن دلالاتها تأتي جميعها من باب «المجاز» وضرب الأمثال، فتدبر:
* «مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ»
* «… وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ..»
ثانيًا:
ينطلق القوم:
في فهم آيات التنزيل الحكيم، من الواقع الذي تعيش شعوب العالم بداخله، وبناء على هذا الواقع يُلحدون في أحكام القرآن ويُحرّفون دلالات كلماتها.
١- لقد وجدوا أن سكان الأرض «٧ مليار»، منهم المسلمون «مليار ونصف»، يصبح الباقي «٥ مليار ونصف».
وعليه، فإذا كان المقصود من قوله تعالى:
* «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنْ الْخَاسِرِينَ»
هم «المسلمون» أتباع رسول الله محمد فقط، فإن هذا معناه أن الـ «٥ مليار ونصف» من سكان الأرض في النار!!
وإذا أخذنا في الاعتبار رواية «الفرقة الناجية»، وهم الذين يتبعون ما كان عليه الرسول وأصحابه، إذن فالذين سيدخلون الجنة من المسلمين هم «١٠٪» على الأكثر!!
٢- وبناء على هذا التفسير المادي للقرآن، القائم على منهج «القص واللصق»، يصبح قوله تعالى:
* «وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ..»
يشمل سكان الأرض جميعًا، الذين:
«يؤمنون بالله واليوم الآخر ويعملون الصالحات»
استنادًا لقوله تعالى:
* «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ»
ولأن هؤلاء هم معظم سكان الأرض جعل الله لهم مساحة «الجنة»:
«ٍعَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ»
٣- ولأن عدد الذين سيدخلون النار قليل جدًا، جعل الله هذه «النار» على هيئة «سجون» بها «عنابر» تصنف حسب أنواع الجرائم التي تحرمها قوانين البلاد!!
وهذه السجون موجودة على نفس مساحة «الجنة»، ولكن بنسبة لا تكاد تذكر، وتُعرف بحساب نسبة السجون الموجودة في العالم إلى مساحة الأرض التي نعيش عليها!!
إذن، ومن منطلق «عدل الله ورحمته»، لا يُعقل أن يُدخل الله «٦ مليار» السجون «أي النار»، و«المليار» يدخلهم الجنة؟!
ثالثًا:
يدّعي القوم:
أن «مساحة النار» لا تكاد تذكر مقارنة بـ «مساحة الجنة»، ودليلهم الوحيد على ذلك هو قوله تعالى:
* «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ»
يقولون:
فها هي جهنم تشتكي إلى الله قلة «النزلاء»!!
أقول:
تعالوا نتدبر السياق:
* «قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ»
* «قَالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ»
* «مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ»
ثم جاء قوله تعالى بعدها:
* «يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلْ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ»
تصديقًا لقوله تعالى:
«لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ»
وسؤال جهنم ليس لمعرفة شيء لا يعلمه الله تعالى، وإنما هو أسلوب «مجازي» يُبيّن امتلاء النار حسب علم الله، «مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ»، وبيان أن مساحة النار تتسع لمزيد من الكافرين «وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ».
إنه لا يوجد «مطلقا» في القرآن دليل واحد يفهم منه «عاقل» أي معلومة عن مساحة النار!!
رابعًا:
إذا كان معظم سكان الأرض سيدخلون الجنة، إذن فمن الذين سيدخلون النار؟!
١- تعالوا نتدبر الآيات التالية:
* «وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً»
* «وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً»
إذن فجهنم «لِلْكَافِرِينَ»، فمن هم؟!
* «الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً»
* «أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلاً»
٢- لا تنسوا أن الله يٌبيّن هذه الآيات للمعاصرين لرسوله في المقام الأول، الذين أعرضوا عن اتباع «الذكر» الذي أنزله عليه، بقرينة قول الله تعالى بعدها مخاطبا رسوله:
* «قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً»
فمن هم «ِالأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً»؟!
* «الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً»
* «أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْناً»
٣- تدبر: إن الكفر بـ «آيات الله» يحبط «الأعمال» ولو كانت «صالحة»، فمن هم «الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ»، ولم يتبعوا الرسول، وكان هذا هو مصيرهم:
* «ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُواً»؟!
٤- ألم يقل الله في سورة البينة:
«إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ»
فلن يُدخل الله تعالى الجنة إلا الذين آمنوا برسوله محمد، واتبعوا رسالته، وهؤلاء هم «خير البرية»:
* «إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ»
والسؤال:
هل سيُدخل الله تعالى:
«الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ»
«سجون القوم» الضيقة جدًا؟!
أم سيدخلهم «الجنة العريضة» جدًا؟!
إن من أخطر «الفتن العقدية» التي يواجهها من يتبعون «القوم الملحدين» اليوم، هي فتنة «التفسير المادي» لآيات التنزيل الحكيم.
«هُمْ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ»
محمد السعيد مشتهري