الإلحاد وأدلته
أولًا:
لقد فهم «محمد شحرور» أن معنى «الفرقان» هو «الوصايا العشر» استنادًا إلى مرويات «أسباب النزول» التي تقول:
إن سورة الأنعام كلها مكية إلا الآيات «١٥١، ١٥٢، ١٥٣» فنزلت في المدنية أثناء موقعة بدر، وقد أشار الله إلى ذلك في سورة الأنفال «الآية ٤١» بقوله تعالى:
* «وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ»
وخرج «شحرور» بنتيجة أن الذي أنزله الله على رسول الله في هذا اليوم هو «الوصايا العشر»، إذن تصبح هي «الفرقان»!!
ولقد بيّنت تهافت هذا الاستدلال في المنشور السابق.
ثانيًا:
عندما يستند نجم مثل «محمد شحرور»، في إثبات حجية مسائل عقدية، إلى مرويات «أسباب النزول» المذهبية، وهي بحر متلاطم الأمواج لا قرار له.
فهذه سقطة منهجية، ومصيبة علمية، تُسقط مشروعه الفكري من قواعده، لو كانت هناك هيئة علمية «محايدة» غير «ملحدة»، تُقيّم أعماله الفكرية، وبرهان ذلك:
١- لقد أجمع أئمة السلف، على أن سورة الأنعام نزلت جملة واحدة بمكة، ولا يصح أن تتجزأ فينزل بعضها في المدينة.
٢- ولم يصح عن ابن عباس أنه قال إن الآيات «١٥١، ١٥٢، ١٥٣» مدنية، لأن الذين قالوا بهذا استندوا إلى كتاب «الناسخ والمنسوخ» للنحاس، ومسألة «النسخ» لا يُعْتد بها في هذا السياق.
٣- لقد حملت هذه الآيات نهيًا عما كان يحدث بمكة من شرك ووأد للبنات وقتل للنفس..، الأمر الذي يناسب نزولها في مكة.
فهذه هي المرجعية العلمية التي استند إليها «محمد شحرور» في فهم الآية «١٥١، ١٥٢، ١٥٣» من سورة الأنعام، والتي على أساسها قال إنها «الوصايا العشر».
ثالثًا:
لقد أشار «محمد شحرور»، في فيديو أمس، إلى العلاقة بين سورة الإسراء وسور الأنعام، فتعالوا نبيّن حقيقة هذه العلاقة، بعيدًا عن علوم القرآن وأسباب النزول.
إن الأحكام التي وردت في «الآيات ٢٢-٣٨» من سورة الإسراء هي باختصار:
* سورة الإسراء:
{ الأمر بالوحدانية … بر الوالدين … إيتاء الزكاة والنهي عن التبذير … التوسط في الإنفاق … تحريم قتل الأولاد بعلة الفقر … تحريم الزنى … تحريم قتل النفس بغير حق ووجوب القصاص … تحريم أكل أموال اليتامى … تحريم التلاعب بالكيل والميزان … تحريم الاتباع بغير علم … تحريم الكبر والخيلاء }.
ثم قال الله تعالى بعدها، في وصف وتسمية هذه الأحكام:
* «ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنْ الْحِكْمَةِ…»
أي أن «أحكام القرآن» هي عين «الحكمة»، فلماذا لم يُسَمّها الله بـ «الوصايا العشر» أو «العشرين»!!
ولذلك حذر الله بعدها الذين اتخذوا هواهم إلهًا بقوله تعالى:
«… وَلا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً»
رابعًا:
فإذا ذهبنا إلى سورة الأنعام، والآيات «١٥١، ١٥٢، ١٥٣» وجدناها تحمل هذه الأحكام:
* سورة الأنعام:
{ الأمر بالوحدانية … بر الوالدين … تحريم قتل الأولاد بعلة الفقر … تحريم الاقتراب من الفواحش … تحريم قتل النفس بغير حق … تحريم أكل أموال اليتامى … الوفاء بالكيل والميزان … الحكم بالعدل ولو كان ذا قربى … الوفاء بعهد الله }.
ثم تدبروا كيف ربط الله هذه الأحكام بسياق الآيات التي قبلها، لبيان أن «الصراط المستقيم» هو «دين الإسلام»، وليس بدعة «الوصايا العشر» اليهودية التي يُرَوّج لها «شحرور»، فقال تعالى:
* «وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ»
فأين ذكر «الوصايا العشر» في سياق الآيات السابق ذكرها؟!
خامسًا:
فإذا ذهبنا إلى سورة «الفرقان»، والمفترض أنها تحمل «الوصايا العشر» التي وردت في الآيتين «١٥١، ١٥٢» من سورة الأنعام، وجدناها تتحدث عن صفات «عِبَادُ الرَّحْمَنِ»:
* سورة الفرقان:
{ التواضع واللين مع الجاهلين … قيام الليل … الاستغفار … التوازن في الإنفاق … الوحدانية … تحريم قتل النفس … تحريم الزنا … لا يشهدون الزور … الامتناع عن اللغو … تعظم آيات الل والخضوع لها … الدعاء بالذرية الصالحة والاقتداء بالمتقين }.
والسؤال:
إذن فلماذا اختار «محمد شحرور» أحكام سورة الأنعام بالذات، مع أن ما ورد فيها من أحكام تكرر في باقي السور، وكان مجموعها من غير المكرر يزيد عن العشرة؟!
سادسًا:
إن أخطر الأمراض التي أصابت قلوب المسلمين، بعد تفرقهم في الدين واتخاذ هواهم مصدرًا تشريعيًا إلهيًا، مرض «خليك في حالك»!!
فإذا بحثنا عن معنى هذا المرض وجدنا أساسه الجهل والاتباع الأعمى، وأن مرضى «خليك في حالك» هم الذين صنعوا نجوم «الفكر الديني» وجعلوهم يستخفون بعقول الناس، تماما كما فعل فرعون مع قومه:
«فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ»!!
لقد كانت قلوب القوم هواءً ـ خفيفةً – لا تحمل علمًا، فلما قال لهم فرعون أنا ربكم الأعلى سجدوا له، وأعجبوا بكلامه، وأطاعوه في كل ما يأمر به، ولكن لماذا:
«إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ»
والفسق هنا ليس «أخلاقيًا» وإنما «علميًا»، فقد انفصلوا عن العلم، ولم يعد له وجود في قلوبهم بعد استحواذ الشيطان عليها.
ولذلك، ومنذ أن بدأت مشوار الرد على منكرات أصحاب القراءات القرآنية الشاذة، منذ عام ٢٠١٣م، وأنا أطلب من التابعين المغرر بهم، والمستخف بعقولهم أن يردوا ردا علميًا على المحاور الرئيسة في المنشورات، وأضع لهم قول الله تعالى
«قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا – إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ – وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ»
وإلى يومنا هذا، لن تجدوا تعليقًا أو تعقيبًا واحدًا يحمل علمًا، ويكفي هذه لتكون في حد ذاتها الفضيحة الكبرى لأتباع «محمد شحرور»، الذين ينقلون عنه ما لا يفقهون!!
سابعًا:
إن المتابع للإنتاج الفكري لـ «محمد شحرور»، ويتدبر كيف يتعامل مع دلائل الوحدانية وفعاليات أسماء الله الحسنى، وموقفه من عالم الغيب وخلق السماوات والأرض والجنة والنار..، يشعر وكأن الله أطلع «شحرور» على أسرار خلق هذا الوجود!!
أما الحقيقة فهي أن «شحرور» ينتمي إلى مدرسة «التفسير المادي للوجود»، وهي التي انطلق منها في قراءاته المعاصرة للقرآن، والتي يجب كشفها للناس في عدة مقالات، ولكن بعيدا عن ذكر اسم «شحرور»:
«لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ مَا عَقَلُوهُ»
محمد السعيد مشتهري