الزينة زينة
يوجد في «علم السياق» ما يُسمى بـ «القرينة الدالة على المعنى»، فعندما نريد الوقوف على معنى كلمة «الزينة» في السياق القرآني، علينا أن نحصر جميع الآيات التي وردت فيها الكلمة، وننظر إلى القرينة الدالة على المعنى في هذه الآيات.
فإذا تدبرنا سياق الآيات التي وردت فيها كلمة «الزينة»، كشيء مادي محسوس، وجدناها تعني «الزينة الخارجة» عن أصل المُزيّن بها، ولا يراد بها «المزين» نفسه أو بعض أجزائه.
فعندما يقول الله تعالى:
«وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ»
فالسماء هي الأصل «المُزيّن»، والبروج هي «الزينة».
وعليه فإن «زينة المرأة» هي كل ما تضعه على جسدها من «ثياب»، أو من «حُلي» تزين بها أعضاءً من جسدها:
* «وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا»
ومن هذه «الحُلي» ما كانت المرأة العربية تُزيّن به أعلى الكعبين، وهو ما يُعرف إلى يومنا هذا بـ «الخُلْخَال»، وقد نزل القرآن يشير إليه في قوله تعالى:
«وَلا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ»
وإذا كان «التزيّن»، لغة وقرآنا، جعل الشيء «المُزيّن» حَسنًا أو أكثر حُسنًا، وذلك بتزيينه بشيء ليس من أصله.
فإن جسم الإنسان «مُزيّنٌ» وليس في ذاته «زينةً»، وما نضعه عليه من ثياب هي التي «تُزيّنه»، ولا يَستمتع برؤية الرجال أو النساء «عرايا» إلا من انتقلوا من المرتبة الإنسانية إلى المرتبة الحيوانية.
أولًا:
لقد عرف النساء المؤمنات، منذ عصر التنزيل وإلى يومنا هذا، أن لباس المرأة المؤمنة، يتكون من:
١- «ملابس داخلية» تغطي بها العورات.
٢- «ملابس ساترة» تغطي الجسم كله، وتستعملها في بيتها.
٣- «جلباب» يغطي الملابس الساترة، وتستعمله عند خروجها من بيتها والتعامل مع غير محارمها.
فإذا عرفنا أن «التزيّن» إضافة إلى أصل الشيء «المُزيّن» تجعله حَسنًا أو أكثر حُسنًا، فإن ملابس المرأة الداخلية «زينة»، وملابسها التي تستعملها في بيتها «زينة»، والجلباب الذي يستر كل هذا وتستعمله عند التعامل مع غير محارمها «زينة».
فتعالوا نقف على فعالية هذه الضوابط القرآنية، التي أمر الله المرأة المؤمنة الالتزام بها، حتى ولو كانت «عجوزًا» لا تحمل ما يجعل الرجال يرغبوا في نكاحها.
يقول الله تعالى مبيّنًا حكم زينة «القواعد من النساء»:
* «وَالْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكَاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ»
نفهم من سياق الآية أن الله رخّص لهذه المرأة أن تظهر أمام غير محارمها بلباسها «المنزلي»، أي بـ «اللباس الساتر» لملابسها الداخلية بدون الخمار والجلباب:
* «أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ»
ولكن بشرط:
ألا تكون ملابسها «المنزلية» كاشفة وواصفة لزينة مخفية:
* «غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ».
و«التبرج»: إظهار ما يجب ستره من جسم المرأة، يقولون امرأة بارج، أو متبرجة، وصفًا للتي تريد إظهار مفاتنها لإثارة شهوات الرجال.
ومع كل هذه الضوابط التي أمر الله «الْقَوَاعِدُ مِنْ النِّسَاءِ» الالتزام بها، يقول الله لهن:
«وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ»
أي خير لهن ألا يخلعن «الخمار والجلباب» أمام غير المحارم.
ثانيًا:
عندما أمر الله المؤمنات بضرب الخمار على «الجيوب»، أضاف إلى فعل الضرب «لام» التأكيد والتشديد، فقال تعالى:
«وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ»
أما عندما جاء إلى حكم «غض البصر وحفظ الفرج» قال تعالى:
«يَغْضُضْنَ»، «وَيَحْفَظْنَ» دون زيادة اللّام، «وَلْيَغْضُضْنَ»..، وذلك لبيان أن لباس المرأة، «الخمار والجلباب»، لم يكن تشريعًا جديدًا، وإنما تصحيحًا لما هو قائم.
لقد كان اللباس الظاهري الذي تتزين به المرأة العربية، يتكون من:
١- «خمار»: تغطي به شعرها عند إرادة الخروج من البيت، وتسدله على صدرها.
٢- «جلباب»: يغطي ملابسها الساترة والداخلية، وترخيه إلى مفصل قدميها عند إرادة الخروج من البيت.
ولقد بيّن الله تعالى من هم الذين لا يحل للمرأة المؤمنة أن تظهر أمامهم إلا بزينة «الخمار والجلباب»، ومن هم الذين يحل لها أن تظهر أمامهم بزينة «الملابس الساترة»، فقال تعالى عن الحالة الأولى:
«وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا»
وهذا حكم عام يتعلق بغير محارم المرأة، فلا تظهر أمامهم إلا بزينة «الخمار والجلباب»، والتي تُظهر ما اقتضت الضرورة المعيشية إبداءه وهو:
«الوجه»، و«الكفان»، و«القدمان».
ولكون هذا الحكم يتعلق بما اقتضت الضرورة المعيشية كشفه، وليس ما تريد المرأة كشفه حسب هواها، قال تعالى:
«إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا»
أي بحكم الضرورة الحياتية، ولم يقل:
«إِلاَّ مَا أظْهَرَته مِنْهَا»
ولم ينتقل سياق الآية إلى بيان الأحكام الخاصة بإبداء زينة «الملابس الساترة» إلا بعد أن عالج مشكلة كانت موجودة بين النساء في عصر الجاهلية تتعلق بزينة «الخمار».
فمن النساء من كن لا يرخين الجلباب فتظهر الزينة التي تُزين بها المرأة أعلى قدميها «الخلخال»، ومن الرجال من يعرفون جمال المرأة من مواضع هذه الزينة، فأمر الله المؤمنات بإدناء الجلباب:
«.. يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ..»
واستخدام السياق لكلمة «عَلَيْهِنَّ» جاء لبيان وجوب تمكن الجلباب من جسد المرأة حتى لا يظهر منه شيء، إلا ما اقتضت الضرورة إظهاره: «الكفان» و«القدمان».
ثالثًا:
ثم تحدث السياق عن حكم الذين يحل للمرأة المؤمنة أن تظهر أمامهم بزينة «الملابس الساترة»، فقال تعالى:
* «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ إِلاَّ..»
إذن فهناك مستثنون من الحكم الأول الخاص بالناس جميعًا:
«وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا»
وهم الذين يُباح أن تُظهر المرأة لهم بـ «ملابسها الساترة»، ولذلك أعاد صيغة النهي «وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ» بدون «إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا».
ثم جاء هذا الاستثناء مرتبط بدرجة قرب المستثنين وصلتهم بالمرأة، فالذي يحل للمرأة إظهاره من زينة ثيابها لأبعدهم صلة عنها، يحل لها أن تظهره لأقربهم، والذي يحل لها أن تظهره لأقربهم، منه ما لا يجوز أن تظهره لأبعدهم.
ولذلك بدأ بـ «إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ»
أليس «الزوج» بعلًا؟!
ليس في كتاب الله بيان لمعنى كلمة من كلماته، ذلك لأن جميع كلمات القرآن:
كلمة «بعل» و«زوج» و«خمار» و«جلباب» و«جيب»…، «مُسَمّياتها» موجودة خارج القرآن، وليس بداخله.
حتى لو جئت بآية تحمل «كلمة» تظن أن سياقها قد بيّن معناها، أقول لك:
لقد فهمت معنى هذه الكلمة لعلمك المسبق بـ «مُسَمّيات» الكلمات الأخرى التي في الآية، والتي تعلمتها من خارج القرآن، وليس من داخله.
فإذا جئنا إلى كلمة «جيب»، فهل بيّن القرآن ما هو هذا «الجيب»، وأين مكان «الجيب» الذي أدخل موسى، عليه السلام، فيه يده:
«وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ»؟!
هل توجد آية قرآنية واحدة، تشرح معنى كلمة قرآنية واحدة، وتقول مثل ما تقول مراجع اللغة العربية؟!
يستحيل!!
لقد خاطب الله العرب بكلمات يعلمون «مُسَمّياتها» من قبل نزول القرآن، وحفظ الله الكلمات ومسمياتها، والتزمت النساء «المؤمنات المسلمات» بها، منذ عصر الرسالة وإلى يومنا هذا.
ومع ذلك لا مانع من استكمال موضوع لباس المرأة المؤمنة.
محمد السعيد مشتهري