السلفية التنويريّة
كيف تَخْضَع وتُسًلّم لأوامر الله وأنت لم تؤمن به أصلًا؟!
هؤلاء هم أصحاب وأتباع القراءات القرآنية السلفية المعاصرة، الذين ينتمون لفرقة «أهل السنة والجماعة» وأقاموا قراءاتهم لأحكام القرآن على أنقاض مرويات فرقتهم.
فرق كبير بين أن تكون داعيًا سلفيًا تربّيت في بيئة سلفية علمية، وابنًا لإمام «أهل السنة والجماعة»، الذي يعمل مديرًا عامًا للوعظ بالأزهر، ثم وقفت على إشكاليات «التراث الديني»، بعد دراسات ومناظرات علمية، وخرجت بنتيجة مفادها وجوب الكفر بـ «التراث الديني» لجميع الفرق والمذاهب العقدية.
ثم تخلع ثوب «التراث الديني» من غير رجعة، وتتفرغ لتعلم ودراسة «القرآن وحده» للوقوف على كيفية التعامل معه، والأدوات التي يجب استخراجها من نصوصه لفهم آياته واستنباط أحكامها.
فرق كبير بين هذه الحالة السابق بيانها، وبين شخص لم تكن له في يوم من الأيام أي علاقة بـ «الفكر الإسلامي»، ولم يدرس علوم اللغة العربية ولا علم السياق!!
وفي يوم من الأيام سمع خطيب الجمعة يقول إننا هزمنا في ١٩٦٧م، لأن النساء كاسيات عاريات، فقرر أن يدرس القرآن ليقف على أحكامه الواجب اتباعها، مكتفيا في ذلك بـ «عقله»، دون أن يشغل نفسه باستخراج الأدوات التي تساعده على استنباط هذه الأحكام!!
ففي الحالة الأولى، كان هدف الباحث الوقوف على منهج التعامل مع القرآن، وعلى الأدوات الواجب اتباعها لاستنباط أحكامه، دون الالتفات إلى «التراث الديني» الذي خلع ثوبه بلا رجعة.
أما في الحالة الثانية، فقد كان يشغل ذهن الباحث الدخول مباشر على أحكام القرآن بهدف هدم مرويات «التراث الديني» للفرقة التي ولد فيها وتربى «مذهبيًا» على مائدتها، والحقيقة أنه يقصد هدم أحكام القرآن.
وهذه الحالة الثانية هي حالة أصحاب وأتباع القراءات القرآنية التنويرية المعاصرة، الذين لا تجدهم يستمتعون ويعجبون إلا بمن يفتح نيران النقد والنقض والشتائم على «التراث الديني» وعلى أئمة السلف ومروياتهم!!
لقد ظل هؤلاء داخل منظومة فقه «التابع والمتبوع» السلفية ولكن بقراءات معاصرة، فلا تخلو قراءة من قراءاتهم من الاستناد إلى رواية من الروايات تكون هي الأساس الذي تقوم عليه هذه القراءة!!
ومن هذه الروايات رواية «بني الإسلام على خمس»، التي ذُكرت في الحوار الذي يحمله الفيديو المرفق، وقد سبق أن بيّنت في المنشورات السابقة البراهين القرآنية التي تثبت بدلالة قطعية كيف أن «الإسلام» يستحيل أن يسبق «الإيمان» إلا في عالم الخيال!!
ولذلك فلن أعلق على ما جاء في هذا الفيديو إلا على مسألة واحدة تتعلق باستدلال صاحب القراءات المعاصرة بالرواية المتفق على صحتها بين البخاري ومسلم، والتي تقول:
«بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله – وإقام الصلاة – وإيتاء الزكاة – وحج البيت – وصوم رمضان».
إن من أصول البحث العلمي أن الاستدلال بمثل هذه الرواية يقتضي الرجوع إلى المصدر الذي حملها، وهو ما يُسمى بـ «علم الحديث»، ومعرفة آراء علمائه في هذه الرواية، ثم تسجيلها في الهامش.
أما أن يجلس صاحب القراءات المعاصرة على الكرسي، ثم يقول لقد قبلت هذه الرواية بشرط تغيير كلمة «الإسلام» بـ «الإيمان» لتوافق هوى قراءته لمفهوم «الإيمان» ومفهوم «الإسلام».
فهذا هو عين «الهوس الديني»!!
لأنه لا يوجد عالم واحد من «علماء الحديث»، عند جميع الفرق والمذاهب العقدية المختلفة، قال بمثل قوله!!
ولن يشفع له قوله إن علماء الحديث يعترفون بأن الأحاديث رويت بالمعنى وليس باللفظ، لأنه لم يحدث أن أحدًا من الذين قالوا هذا الكلام، أثبتوا وجود «تصحيف»، أو «تحريف»، أو «وهم» من راوي هذا الحديث.
وهذا هو عين «العك الديني»!!
أولًا:
لقد بُعث أصحاب القراءات القرآنية المعاصرة من أجل هدم «دين الإسلام» الذي ارتضاه الله للناس جميعًا، ولإعطاء شهادة لأتباع الملل والنحل المختلفة، على مستوى شعوب العالم، تثبت أنهم «مسلمون»، ما داموا يؤمنون بـ «الله واليوم الآخر»، و«يعملون الصالحات»، استنادًا لقوله تعالى:
«إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ»
وقد سبق أن بيّنت في كثير من المنشورات تهافت هذه القراءة التي تدخل أصحاب الملل والنحل المختلفة الجنة دون الإقرار بصدق «نبوة» رسول الله محمد، واتباع رسالته.
ومن هذه المنشورات مقال نشرته صحيفة «المقال» بعنوان:
«عندما تحرف القراءات العصرية مفهوم النبوة»
على هذا الرابط:
https://islamalrasoul.com/458-2352016/
ثانيًا:
إن «الإسلام» هو الدين الذي جاء به رسول الله محمد ناسخًا لجميع الأديان التي سبقته، ولذلك وصف الله الذين لا يؤمنون بـ «دين الإسلام» الذي جاء به رسوله محمد بالمنافقين والكافرين والمشركين.
لقد بدأت سورة «المائدة» بمنظومة من الأحكام وردت في سياقها هذه الجملة:
«الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً»
واللافت للنظر أن من هذه الأحكام أحكام «الوضوء» الذي لا تصح «الصلاة» إلا به:
«يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ …»
إذن فلماذا وردت جملة «وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً» وسط منظومة من أحكام القرآن؟!
لأن «الإسلام» أصبح بعد بعثة رسول الله محمد اسم علم على دين الله الخاتم، الذي حمله القرآن، ويعني التسليم لأحكام هذا القرآن.
ويستحيل أن يُسلّم المرء لأحكام القرآن دون أن يدخل «الإيمان» قلبه، فتدبر:
«فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ»
إذن «الإيمان» يأتي أولًا، ثم يأتي بعده «التسليم» بمقتضيات هذا «الإيمان»، لذلك قال تعالى بعدها:
«حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ»
«ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ»
«وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا»
إن البرهان على صدق ما في القلب من «إيمان»، هو الخضوع والتسليم العملي لأحكام القرآن «تَسْلِيمًا».
ثالثًا:
إن «الإيمان» يكون « بـ » شيء.
و«الإسلام» يكون « لـ » الشيء الذي آمن به الإنسان.
وهذا ما بيّنه الله في سياق قصة سليمان مع ملكة سبأ:
«وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»
تدبر معاني الخضوع والإسلام والتسليم في قولها:
«لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ»
١- يقول الله تعالى مخاطبا رسوله محمدًا:
«يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنْ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ..»
تدبر: «قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ»
ذلك أن القلوب إذا صدقت في إيمانها عملت بمقتضى هذا «الإيمان»، وظهر ذلك في تسليم أصحابها لأوامر الله تسليمًا، ولم يفعلوا هذا الذي ذكره الله بعد ذلك:
«يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا..»!!
٢- ويظهر الفرق جليًا بين «الإيمان والإسلام» في سياق قصة لوط مع قومه، وقوله تعالى:
«فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ . فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ»
إن مجيء «الفاء» في أول الجملة الأولى «فَأَخْرَجْنَا».
وفي أول الجملة الثانية «فَمَا وَجَدْنَا».
يُبيّن أن الإخراج والوجدان حدثا في وقت واحد، وذلك عند البحث عن بيت «مؤمن مسلم».
وهل كان في قرية لوط غير بيت واحد مؤمن مسلم «في الظاهر»، لأن امرأته كانت تظهر «إسلامها» وهي كافرة؟!
إذن فالسياق يتحدث عن بيت واحد، وصف الله أفراده في الآية الأولى بـ «المؤمنين»، وفي الثانية بـ «المسلمين».
ولكن لماذا؟!
لأن الوجدان، «فَمَا وَجَدْنَا»، كان على أساس «الإسلام» الظاهري الذي هو من مقتضيات «الإيمان» بشريعة لوط، الذي كانت امرأته تُظهر له «الإسلام» والخضوع والتسليم، وتُبطن «الكفر».
والمعنى:
«فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ [ أهل ] بَيْتٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ»
وذلك تأكيدًا لقول إبراهيم للملائكة الذين كانوا في طريقهم إلى قرية لوط:
«قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ [ وَأَهْلَهُ ] إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنْ الْغَابِرِينَ»
ولذلك عند الإخراج «فَأَخْرَجْنَا» لم تخرج امرأة لوط مع أهل بيته لأنها لم تكن من المؤمنين، والله يقول:
«فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنْ الْمُؤْمِنِينَ»
رابعًا:
إن الله تعالى يخاطب بأحكام القرآن «الَّذِينَ آمَنُوا»، أي الذين أقرّت قلوبهم بأصول الإيمان الخمسة:
«وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ – وَمَلائِكَتِهِ – وَكُتُبِهِ – وَرُسُلِهِ – وَالْيَوْمِ الآخِرِ – فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً»
ولا يمكن أن يخاطب الله «الذين أسلموا»، يأمرهم العمل بأحكام القرآن، دون أن يدخل «الإيمان» قلوبهم، كـ «المنافقين» الذين يبطنون الكفر ويظهرون الإيمان؟!
١- ولذلك كان منطقيًا أن يخاطب الله بأحكام القرآن «الَّذِينَ آمَنُوا»، يأمرهم العمل بمقتضى إيمانهم وهو «الإسلام» والتسليم «الظاهري» لهذه الأحكام، سواء صدقوا في إيمانهم أم لم يصدقوا.
ولذلك قال تعالى عن الأعراب المنافقين:
«قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..»
إن «المنافق» الذي يتظاهر بتنفيذ أحكام القرآن، والتسليم لها تسليما، ينطلق من هواه وليس من «الإيمان» بوجوب تنفيذها!!
ولذلك قال تعالى بعدها مبينًا أن «الإيمان» الصادق يسفر عن «عمل» صادق وطاعة لرسول الله:
«وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً..»
أي إن أخلصت قلوبكم «الإيمان»، وعملتم بمقتضاه، وأطعتم رسول الله، وسلّمتم لما قضى به تسليما، فلن ينقصكم الله من أعمالكم شيئًا.
٢- إذن فـ «العمل الصالح» إذا لم ينطلق من قاعدة «إيمانية» صادقة لا ريب فيها، فإن الله تعالى لن يقبله، وقد بيّن الله ذلك بقوله تعالى بعدها:
«إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ [ لَمْ يَرْتَابُوا ]..»
إن قوله تعالى «ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا»، بعد وصفهم بـ «المؤمنين»، خير برهان على أن «الإيمان» من أعمال «القلب» ويعني «التصديق»، والذي من مقتضياته التسليم لهذه الأحكام:
«وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ»
ولذلك قال بعدها:
«أُوْلَئِكَ هُمْ الصَّادِقُونَ»
٣- وفي موضع آخر يكشف الله جانبًا من أحوال المنافقين، فيقول تعالى:
«يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ [ أَسْلَمُوا ] قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ [ لِلإِيمَانِ ] إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»
إن المنافقين لم يؤمنوا، لقوله تعالى قبلها:
«وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..»
فكيف يقول الله تعالى:
«بَلْ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلإِيمَانِ»
إن من له دراية باللغة العربية وبعلم السياق، يعلم أن كلمة «بَلْ» جاءت لتكذيب قولهم «آمنا»، لأنهم لو صدقوا في إيمانهم لكان الفضل يرجع إلى مشيئة الله أن جعل من الآيات ما يكفي لإيمان الناس جميعًا، ولكنه شاء أن يخلقهم مختارين.
ولذلك عقب على هذه الجملة بقوله تعالى:
«إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ»
محمد السعيد مشتهري