مقدمات الدين الجديد
لقد ظل المسلمون يحملون «القرآن» قرونًا من الزمن، مع تفرقهم وتخاصمهم وتقاتلهم، ولم يستطع أحد من شياطين الإنس والجن أن يقترب منه بتحريف أو تبديل لتعهد الله بحفظه.
ومع تفرق المسلمين في «دين الإسلام» إلى فرق ومذاهب عقدية، واتباعهم مصدرًا ثانيًا للتشريع ما أنزل الله به من سلطان.
ومع اختلاف مذاهبهم الفقهية إلى درجة أن المسألة الواحدة تكون حرامًا عند مذهب وحلالا عند آخر.
ومع علوم القرآن التي فسّرت ونسخت وقيّدت آيات قرآنية بمرويات البشر، فجعلت الرواية حاكمة على الآية.
ومع ظهور أدعياء «النبوة»، كلٌ حسب الفرقة التي ينتمي إليها.
ومع هجر «كلام الله» واتباع «كلام الأئمة»، سواء كانوا سلفيّين أو قرآنيّين أو عصريّين تنويريّين.
لم يخرج أحد من هؤلاء السلف بقواعد وأصول ومصطلحات «دين جديد»، كهذا الدين الذي يُسرع إلى اتباعه آلاف المسلمين بغير علم ولا هدى من الله، باسم القراءات القرآنية المعاصرة.
وعليه، فقد ظلت منظومة «فقه التابع والمتبوع» قائمة بين المسلمين تحكم حياتهم الفكرية الدينية، وما عليهم إلا الاتباع الأعمى، ونشر فكر «المتبوعين».
فإذا نظرنا إلى ما يحمله «التابعون» من مشاريع فكرية تظهر ابداعاتهم وبصماتهم الدينية المستقلة، فلن نجد شيئا له قيمة!!
ولذلك كان من الطبيعي أن تتسع دائرة القراءات القرآنية المعاصرة بصورة تنذر بخطر عظيم يهدد إيمان الأجيال القادمة وإسلامهم بعد انقلاب موازين «الإيمان والإسلام» رأسًا على عقب.
لقد جعل أصحاب القراءات الشاذة للقرآن «الإيمان» الذي محله القلب، يأتي بعد «الإسلام» الذي محله الجوارح، و«الإسلام» مقتضى «الإيمان»، وليس العكس!!
وإليكم بعض الأمثلة تبين مدى تهافت هذا «الدين الجديد» الذي يستحيل أن يقبله «قلب سليم».
أولًا:
لقد بعث الله الأنبياء والرسل لدعوة الناس إلى الإيمان بـ «الإله الحق» والكفر بالآلهة المزيفة، فقال تعالى:
«فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلا تَتَّقُونَ»
ولقد تكررت الجملة التالية في سياق دعوة الرسل أقوامهم:
«يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ»
إذن فأنت حر في أن تتبع الإله الذي يستريح له قلبك، ولكنك لست حرًا في ألا تُسلّم لأوامره تسليمًا، لأن عدم تسليمك لأوامره يعني أنك لم تؤمن به أصلًا!!
ثانيًا:
إن القاعدة التي ينطلق منها «التسليم» لأوامر الإله المعبود، قاعدة «إيمانية» منطقية، ذلك أن الإنسان يُؤمن أولًا، ثم يقوم بتنفيذ أوامر من آمن به، ويُسلّم له تسليما.
فإذا ذهبنا إلى كتاب الله الخاتم، القرآن الكريم، كي نهتدي بهديه في بيان مفهوم «الإيمان والإسلام» والعلاقة بينهما، نجد أن الله يخاطب أهل الكتاب في عصر التنزيل بقوله تعالى:
«قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا»
«وَمَا أُنزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى»
«وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ»
* «وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ»
تدبر: لقد فهم الأنبياء والرسل معنى «الإيمان والإسلام» والعلاقة بينهما، وأن «الإسلام» ليس شعارًا ولا «اسمًا» يحمله أتباع الرسل، وإنما «فعل» وتسليم لـ «أوامر الله».
وهذا ما بينه الله بعد ذلك بقوله:
«فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنتُمْ بِهِ فَقَدْ اهْتَدَوا»
«وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ»
«فَسَيَكْفِيكَهُمْ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ»
وإن هذه الآيات تحمل البرهان الدال على كفر كل من لم يؤمن برسوله محمد، ولم يُسلّم لأحكام شريعته تسليما.
كما تحمل البرهان على أن معنى «الإسلام» هو السلوك العملي الذي يعكس صدق ما في القلب من «إيمان».
وهذا ما بينته كلمة «له» في قوله تعالى:
«وَنَحْنُ [ لَهُ ] مُسْلِمُونَ»
وعدم قولهم «ونَحْنُ مُسْلِمُونَ»، لبيان أن «الإسلام» خضوع وتسليم «لـ » أوامر الله، كما أفادت كلمة «له».
ثالثًا:
فتعالوا نتدبر سياق الآيات التي تؤكد أن معنى «الإسلام» هو الخضوع والتسليم لأوامر الله تعالى:
* «رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ [ لَكَ ] وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً [ لَكَ ]..»
* «بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ [ لِلَّهِ ] وَهُوَ مُحْسِنٌ..»
* «إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ [ لِرَبِّ ] الْعَالَمِينَ»
* «قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ [ لَهُ ]
مُسْلِمُونَ»
* «لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ [ لَهُ ] مُسْلِمُونَ»
* «فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ [ لِلَّهِ ] وَمَنِ اتَّبَعَنِ»
* «أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ[ لَهُ ] أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ»
* «وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ [ لِلَّهِ ] وَهُوَ مُحْسِنٌ»
* «وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ [ إِلَى ] اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ»
* «قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ [ لِرَبِّ ] الْعَالَمِينَ»
* «فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ [ فَلَهُ ] أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ»
* «وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ [ لِلَّهِ ] رَبِّ الْعَالَمِينَ»
* «وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ [ لَهُ ] مُسْلِمُونَ»
* «وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا [ لَهُ ] مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ»
رابعًا:
وعندما يقول الله تعالى:
١- «إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ»
فهذا ليس معناه أن الله وضع اسمًا لهذا الدين هو «الْإِسْلَامُ»، وإنما جعل البرهان على صدق «الإيمان» بهذا الدين هو «التسليم» لأوامره سلوكًا عمليًا، وليس برفع شعار «الإسلام هو الحل»!!
٢- وعندما يقدم الله «الإسلام» على «الإيمان»، في قوله تعالى:
«إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ …»
فهذا من باب تقديم التسليم «الظاهري» الذي يراه الناس، على الإيمان «الباطني» الذي لا يعلم حقيقته إلا الله تعالى.
٣- وعندما يقول الله تعالى:
«فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمْ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ»
«قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ»
«آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ»
فهذا لبيان أن للإقرار بأصول الإيمان الخمسة مقتضيات نزلت بها جميع الرسالات، وهي:
* «وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً»
ثم بعد الإقرار بـ «أصول الإيمان» يأتي العمل بمقتضياتها، وأول الطريق إلى ذلك هو طاعة الرسل واتباع ما جاءت به رسالاتهم:
«رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ»
خامسًا:
ويقول الله تعالى، في سياق بيان قصة موسى مع فرعون، عن رد فعل السحرة الذين جاء بهم فرعون:
«وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ . قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ . رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ . قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ..»
إن كفر السحرة بـ «فرعون الإله»، الذي آمنوا به على أساس أنه «رب العالمين»، وسلّموا لأوامره تسليما، واتباعهم «رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ» وخضوعهم لأوامره والتسليم له تسليما، اقتضي:
١- الإيمان القلبي الذي قام على «الآيات البيّنات» الدالة على صدق «نبوة» موسى، عليه السلام، وهي:
«وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى . فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى»
٢- التعبير بـ «السجود» عن صدق هذا الإيمان القلبي عمليًا، وتحمل العذاب الذي قرر فرعون أن يوقعه بهما، وقولهما له:
«فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا»
ثم تدبر ماذا قال موسى وهارون بعدها، لبيان أن «الإيمان» هو أول الطريق إلى الله تعالى، وليس «الإسلام» كما يدعي الملحدون:
«إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنْ السِّحْرِ»
ثم تدبر خطاب موسى لقومه:
«وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ»
ومعلوم أن قوم موسى آمنوا به وسلّموا لأحكام شريعته، ولذلك فإن المقصود بـ «إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ»، و«إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ»، هو بيان وجوب تفعيل مقتضيات «الإيمان»، ومقتضيات «الإسلام»، في مواجهة تحديات فرعون، وذلك بالتوكل على الله «فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا».
إن قوله تعالى «فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا» هو المحور الأساس لفهم هذه الآية، والذي يُبيّن أن «التوكل على الله» شرط لصحة «الإيمان» ولصحة «الإسلام».
أي إن كنتم صادقين في إيمانكم، وصادقين في إسلامكم، فلا تشكوا لحظة في أن الله سينصركم على أعدائكم.
٣- إن «الإيمان» عمل القلب، ويقتضي «الإسلام» الذي هو عمل الجوارح، ولذلك لا يصح الإيمان إلا بـ «الإسلام» والتسليم لأوامر الله، وإلا فكيف يُعلم
صدق «الإيمان» إلا بتصديق الجوارح له؟!
ولا يصح «الإسلام»، الذي هو عمل الجوارح، إلا انطلق من قاعدة «الإيمان» بالأصول الخمسة، وإلا فكيف يُسلّم المرء لأوامر من لم يؤمن به أصلًا، طبعا إلا إذا كان مكرهًا؟!
«إن الإيمان والإسلام متلازمان، لا ينفصلان إلى في حالتي الإكراه والنفاق»
محمد السعيد مشتهري