فأقول:
بعد أن فَرّق بين «الكتاب والقرآن»، ظنًا منه أنه سيسقط «التنزيل الحكيم»، بدعوى عدم وجود «ترادف» في القرآن.
ذهب يسقط «أحكام القرآن» بالتفريق بين الفعلين «كَتَبَ» و«فَرَضَ»، بهدف بيان أن «الصيام» ليس «فرضًا» وإنما «كتابًا»!!
وأن «الصيام» من أركان «الإيمان» وليس «الإسلام»، وطبعا حسب بدعته التي ألف فيها كتابًا عن الإسلام والإيمان!!
أولًا:
سأعقب باختصار على ما جاء بالفيديو المرفق.
يقول «د.م. محمد شحرور»:
١- الرسول الأعظم لم يطبق السلطة في الشعائر، لم يسأل من الذي صلى، ومن الذي أفطر..، وكان يستعمل الترغيب والترهيب فقط.
# تعقيب:
يقول «شحرور» إنه درس القرآن سنوات وسنوات، وتدبر آياته، وما حملته من أحكام، والسؤال:
هل لم يقرأ خلال دراسته هذه قول الله في سورة التوبة «الآية ٥»، مخاطبًا رسوله محمدًا، في سياق بيان أحكام قتال المشركين المعتدين:
* «فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ»؟!
وقوله تعالى بعدها «الآية ١١»:
* «فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ»؟!
فعندما تأتي الآيتان بعد قوله تعالى:
* «فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا…»
أليست «فَإِنْ تَابُوا» الأولى والثانية خير برهان على أن شرط عصمة دماء الكافرين المشركين، ودخولهم في «دين الإسلام»، وتحقق أخوتهم الإيمانية، هو أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة؟!
# تعقيب:
ولماذا ذكر الله تعالى «إقام الصلاة وإيتاء الزكاة» فقط، دون ذكر أصول الإيمان الخمسة التي يقوم عليها «دين الإسلام»:
* «وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً»؟!
ودون أن يذكر باقي أحكام القرآن؟!
أقول:
(أ) وبعيدا عن التراث الديني للفرق والمذاهب العقدية المختلفة، وعن منظومتهم الفقيهة التكفيرية، وما إذا كان تارك الصلاة يُقتل حدًا أم كفرًا.
فهذه الاية لا علاقة لها بكل هذا، كما أن «التراث الديني» ليس من أدوات فهمي للقرآن، وإنما هو «علم السياق»، فتدبر:
كيف يدخل المشرك «دين الإسلام» من باب «تنفيذ الأحكام»:
«إقام الصلاة وإيتاء الزكاة»
وليس من باب التصديق بـ «الوحدانية»، وبـ «الآية العقلية القرآنية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، والتي حملت نصوصها هذه الأحكام؟!
(ب) تعريف الإيمان والإسلام:
# «الإسلام»:
هو الإذعان و«التسليم» العملي لكل ما حمله كتاب الله الخاتم من مسائل الملة وأحكام الشريعة، ولا يصح هذا «التسليم» إلا إذا قام على قاعدة «إيمانية» محلها القلب.
# «الإيمان»:
أن تشهد شهادة علمية بـ «الوحدانية»، وبـ «أصول الإيمان الخمسة»، وبصدق «الآية العقلية القرآنية» التي حملها كتاب الله الخاتم والدالة على «نبوة» رسول الله محمد.
وقد بيّن الله ذلك بقوله تعالى:
* «فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»
تدبر: «لا يُؤْمِنُونَ» … «وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً»
# ومتى كان «الإيمان» صادقًا، كان «الإسلام» والتسليم لـ «دين الإسلام» صادقًا.
فقد كان «المنافقون» يُظهرون «الإسلام» باعتباره الجانب العملي في «دين الإسلام»، ويبطنون في قلوبهم «الكفر»، الأمر الذي كشفه الله للناس ليحذروهم:
* «إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ – وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ – وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ»
# تعقيب:
هناك ما يُعرف في «علم السياق» بـ «المفهوم الضمني»، وأن المشركين كانوا يعلمون أن «إقام الصلاة وإيتاء الزكاة» هو المظهر العام الدال على الإقرار والتصديق بـ «دين الإسلام» ملة وشريعة.
لذلك فإن قوله تعالي:
* «فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوْا الزَّكَاةَ..»
لا يعني مطلقًا أن المطلوب من المشركين أن يقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، وبذلك يصبحون مؤمنين أخوة للمسلمين!!
وإنما هذا هو الشعار الذي يُفهم منه أن رافعه «مسلم».
فإذا لم يقم هذا الشعار على التصديق بـ «الوحدانية»، وبصدق «الآية العقلية القرآنية» الدالة على «نبوة» رسول الله محمد، والتي حملت نصوصها أحكام القرآن من صلاة وزكاة.. إلى آخر الأحكام.
فإن رافع هذا الشعار منافقٌ، كما بين الله ذلك عند الحديث عن الأَعْرَاب:
* «قَالَتْ الأَعْرَابُ آمَنَّا – قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا – وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا – وَلَمَّا يَدْخُلْ الإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ..»
# والخلاصة:
أن «قول شحرور» إن رسول الله محمدًا لم يكن يطبق السلطة في الشعائر، أقل ما يقال فيه إنه لا يرقى أن يكون متهافتًا!!
وهناك مئات الآيات الدالة على أن رسول الله كان رئيس دولة، وقائدًا عسكريًا، وإماما دينيًا.
ولم تكن هناك مسألة تتعلق بـ «دين الإسلام» إلا وكان «الأمر» و«النهي» فيها للرسول القائم على تنفيذ ما حمله كتاب الله بين الناس، «ملة وشريعة»، والذي أمر الله الناس بطاعته والتسليم لأمره.
٢- يعتبر «محمد شحرور» أن الآيتين «١٨٣-١٨٤» من سورة البقرة، قد حملتا «الأصول» المتعلقة بأحكام الصيام، وأن الآية بعدها جاء تخاطب من أراد الصيام ببيان ما هي «الأيام المعدودات»:
فقال تعالى «الآية ١٨٥»:
* «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ..»
# تعقيب:
عندما أوقف مقدم البرنامج «شحرور» وقال له إن «الأيام المعدودات» لا تعني «شهرًا»، وربطه بين الآيتين غير صحيح، باعتبار أنه ينفي وجود «ترادف» في القرآن، والأيام غير الشهر.
هنا سقطت قراءات «محمد شحرور» الإلحادية للقرآن، وتلعثم، وخرج عن الموضوع، وذهب يتحدث عن مسألة يعلمها أي مثقف ثقافة دينية، وهي الفرق بين الفدية والكفارة!!
ثم عندما أوقفه مقدم البرنامج عند كلمة «يطيق» في جملة «وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ»، وأن هذه الكلمة تخاطب الذين يعلمون أعمالا شاقة يبذلون فيها كل طاقتهم، فلا يستطيعون الصيام.
قال «شحرور»: ماشي خليها هيك..، ثم قفز إلى قوله تعالى:
* «وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ»
ويثير حوله «كعادته» شبهات لا يثيرها إلا «الجُهّال» ويقول:
يعني هل رجل الإطفاء الأحسن له أي يصوم؟!!
وهل الذي يعيش في السويد، ورمضان «٢٢ ساعة»، نقول له «وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ»؟!
# تعقيب:
(أ) هذه الآية اتنهى العمل بأحكامها بعد نزول «الآية ١٨٥» وقوله تعالى:
* «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ..»
وسيأتي البرهان على ذلك بعد قليل.
(ب) الذي يعيش في السويد، ورمضان «٢٢ ساعة»، أو في أي مكان في العالم، مثله كمن يقضي رمضان في غواصة تحت الماء لا يرى شروقًا للشمس ولا غروبًا، أو يعيش على القمر!!
هنا يكون العمل بما يُعرف في أصول الدين بـ «المقاصد»:
فلا ينظر إلى شهر رمضان بـ «المفهوم الفلكي»
وإنما بـ «المفهوم المقاصدي»:
أي أن يلتزم بأحكام الصيام شهرًا، بعدد ساعات صيام البلد التي أنزل الله على رسوله فيها القرآن، وهي «مكة».
٣- ثم نأتي إلي المصيبة العقدية العقلية الشركية، التي تحدثت عنها كثيرًا، وصُمّت أمامها أذان أتباعه الغافلين، الذين غيّب «الجهل» آليات عمل قلويهم، فلم تعد تعقل ولا تفكر ولا تتدبر ولا تفقه!!
فها هو صاحب القراءات القرآنية المعاصرة، بعد تعلثمه وتهافت قراءاته الإلحادية لـ «الآيتين ١٨٣-١٨٤»، يستعين ويستند إلى ما يُسمى بـ «الحديث القدسي»، لعله ينقذه من غرقه في ظلمات الجهل، فيقول:
هنا نفهم قول الرسول الأعظم الصوم:
«كل عمل ابن آدم له إلا الصوم فإنه لي وأنا أجزي به»
ثم يزيد الطين بلة، ويقول تعليقا على هذه الرواية:
«إن الله خيرك، وإن صمت أحسن»!!
ولأنه لا يقيم قراءاته الإلحادية على أي منهجية علمية، فلا يعلم أنه لا يوجد كتاب من كتب المرويات التي حملت هذه الرواية، يقول صاحبه بمثل ما قاله!!
ثم يكشف عن أهداف «منظمة الإلحاد العالمية»، ويضحك على المساكين بمعادلة رياضية تجعل فقراء العالم أغنياء، على حساب إسقاط أحكام القرآن، ويقول:
إذا دفع من لا يريد الصيام «٥ دولارات» وكان عددهم «١٠٠ مليون» يصبح عندنا «١٥ مليار دولار»!!
وفيه ناس مستعدين يُطعموا «٥٠ و١٠٠» مسكين، إذا اقعتنعوا أن «الفدية» بديل لـ «الصيام»..، لأن فيه ناس بتتضايق من الصوم!!
# تعقيب:
وهكذا، يأكل الأغنياء المسلمون في بيوتهم طوال شهر رمضان، وفي أفخم المطاعم، ويُعطون «الفدية» للفقراء، ويصبح الفقراء أغنياء، فلم يعد الصيام يلزمهم.
ومع مرور الوقت، وميل النفس إلى حب الشهوات، تسقط فريضة الصيام، ليستمتع المسلم بيومه كاملًا خلال شهر رمضان!!
# قالوا لفرعون ما الذي فرعنك؟!
قال لم أجد من يقول لي أنت «جاهل»!!
وبمنهجية «القص واللصق» الذي تميزت بها قراءات «شحرور» الإلحادية، يقفز إلى قوله تعالى:
* «وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ..»
ثانيًا:
إن هذه الجملة السابقة، التي استقطعها «شحرور» من «الآية ١٨٧» من سورة البقرة، هي البرهان «قطعي الدلالة» على أن كل ما قاله في هذه الحلقة المرفقة «باطلٌ»، ليس فقط «قرآنيًا»، وإنما أيضا «عقليا»!!
فتعالوا نتدبر «الآية ١٨٧» وعلاقتها بالآيات «١٨٣-١٨٤ -١٨٥»:
«الآية ١٨٧»:
* «أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمْ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنْ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنْ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ»
ما معنى أن تبدأ الآية بقوله تعالى:
«أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ…»
١- أن «الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ» لم يكن حلالا قبل نزول هذه الآية.
نفهم من ذلك أن المسلمين كانوا يصومون قبل نزول هذه الآية، وكان محرمٌ عليهم مباشرة النساء بالنهار والليل خلال فترة الصيام.
٢- فكان المسلمون «يَخْتَانُونَ أَنفُسَهُمْ»، أي يراودونها على مباشرة نسائهم ليلًا، ولذلك لم يقل «يخونون أنفسهم» لأنها لم تكن منهم خيانة، وإنما تحركت شهواتهم نحو معصية الله.
٣- إذن فقد كان المسلمون يصومون قبل نزول هذه الآية وفق ما بينته الآيتان «١٨٣-١٨٤»:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ . أَيَّاماً مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»
وكان ذلك في فترة «التدرج التشريعي»، كما هو واضح في قوله تعالى:
* «عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتَانُونَ أَنفُسَكُمْ»
* «فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ»
* «فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ..»
٤- إن قوله تعالى:
«فَالآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ..»
هو خير برهان على انتهاء فترة «التدرج التشريعي» التي نزلت بعدها «الآية ١٨٥»، تفرض على كل مؤمن مسلم «الصيام» مع انتفاء الأعزار، فقال تعالى:
* «شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنْ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
ثالثًا:
إن المتدبر لسياق «الآية ١٨٥» يعلم أنها الآية «الأم» في أحكام الصيام، التي ألغت «التخيير» بين الصيام والفدية، وإباحت إتيان النساء ليلة الصيام، وحددت «الأيام المعدودات» بـ «شهر رمضان».
١- لقد جاءت بما يقابل «الآية ١٨٣»:
«كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ»
بـ «صيغة الأمر» في قوله تعالى:
* «فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمْ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ»
لقد أصبح صوم «شهر رمضان» فريضة على كل مسلم، إلا:
«وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»
والتي تقابلها في «الآية ١٨٤»:
«فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ»
٢- ثم ألغى حكم «الفدية» الذي جاء بعد الآية السابقة:
«وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ»
وألغى «التخيير»:
* «وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ»
وحل محلهما قوله تعالى:
* «يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمْ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ»
نفهم من هذا «الإحلال»، ومن مفهوم «اليسر»، ما يلي:
(أ) أن الله رخّصَ لأصحاب الأعذار الإفطار على أن يصوموا أيامها، لتكتمل عدة الشهر، ولذلك قال بعدها:
* «وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
(ب) أن المريض الذي لا يُرجى شفاؤه، لا عدة عليه، استنادًا إلى قوله تعالى «وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ».
(ج) أن الذي يؤدي «عملًا مؤقتًا» يبذل فيه جهدا شاقًا لا يستطيع معه الصيام، يدخل في حكم «فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ».
(د) أن الذي يؤدي «عملًا مستديمًا» يبذل فيه جهدا شاقًا لا يستطيع معه الصيام، فهو في حكم المريض الذي لا يُرجى شفاؤه، فلا شيء عليه، استنادًا إلى قوله تعالى «وَلا يُرِيدُ بِكُمْ الْعُسْرَ».
(هـ) إن الذي يملك مالًا، ويريد مساعدة الفقراء، يساعدهم خلال العام، وليس في شهر رمضان فقط، ومن يريد إقامة «موائد الرحمن» لإطعام مئات الفقراء، فليتفضل، ولا علاقة بين ما يفعله من خير، وبين صومه.
رابعًا:
يدعي «محمد شحرور» أن فعل «كُتِبَ» يأتي على سبيل «التخيير» في أداء الفعل أو عدم أدائه، غير فعل «فُرِضَ».
وعليه ذهب إلى قوله تعالى «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ» واعتبر هذه الآية هي الدليل على أن الله كتب «الصيام» ولم يفرضه، فمن شاء صام، ومن لم يشأ دفع «الفدية»!!
فيقول في كتابه «الإسلام والإيمان / القسم الأول / الكتابة – الفريضة – الوصية – الموعظة».
١- وهذا ما يميز جميع التكاليف التي وردت في التنزيل الحكيم تحت باب «كتب عليكم»
ثم يُلحد في معاني الكلمات ويقول بعدها:
٢- «أي أنها ضد الفطرة الإنسانية، وأن على الإنسان أن يكبح فطرته ليقوم بها، ولو كان كارهاً لها»
# أقول:
من أي مرجع من مراجع اللغة العربية جاء بأن ما كتبه الله على المؤمنين من أحكام القرآن «ضد الفطرة الإنسانية»؟!
إن الله تعالى لا يكتب على المؤمنين فعل شيء ضد «فطرتهم الإنسانية»، وإلا ما فعلوه أصلًا، وإنما قد يكون ضد رغباتهم وأهوائهم، والفرق كبير!!
إن «الكره» ضد «الحب»، وهي مسائل نسبية تتعلق برغبات الإنسان وأهوائه، كما تتعلق بإيمانه بما يجب أن يفعله.
إن الإنسان «يكره» الموت، ويرغب في «الحياة»، ولكن هل معنى هذا أن الله عندما كتب على المؤمنين «القتال»، فقال تعالى:
* «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ»
أنه سبحانه خيّرهم بين أن يقاتلوا عدوهم، أو يجلسوا في بيوتهم، لأن القتال «كُرْهٌ لَهُمْ»، وضد فطرتهم الإنسانية؟!
الحقيقة أن الإجابة على هذا السؤال جاءت في الآية التي بعدها:
* «وَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ – وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ»
وهذا معناه أن على المؤمن تنفيذ «ما كتبه الله عليه» بصرف النظر عن حبه أو كرهه له.
أما عن ورود مادة «الكره» في السياق، فجاء ذلك من باب تطمين المؤمنين بأن الله عندما «كتب عليهم» كل ما فيه مشقة على أنفسهم، فإنه يعلم ما تُكِنّ صدورهم، ولذلك قال تعالى بعدها:
* «وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ»
ويقول «شحرور»:
٣- «ومن هنا تدخل الاستطاعة في التكاليف الواردة تحت باب كتب عليكم، لقوله تعالى: لا يكلف الله نفساً إلا وسعها..، ولا علاقة لها بالوصية ولا بالفرضية من قريب ولا من بعيد»
# أقول:
انظروا وتدبروا منهجية «القص واللصق الشحرورية»، وكيف يبني الباطل على قواعد باطلة أصلًا:
(أ) فمن أين جاء بأن «باب كتب عليكم» يعني «الاستطاعة في التكاليف» استنادا إلى قوله تعالى:
«لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا»
(ب) هل يُعقل أن تكون كل الأحكام التي كتبها الله على المؤمنين جاءت على سبيل «التخيير»، ومن ذلك «أحكام القتال»، بدعوى أن الله لا يكلف نفسًا إلا وسعها؟!
(ج) إن «الْوُسع» بضم الواو، هو الطاقة والاستطاعة، ليكون المعنى:
إن الله لا يكلف نفسًا بما فوق طاقتها، وهو من باب إطلاق المصدر وإرادة المفعول.
و«المستطاع»: هو ما اعتاد الناس فعله، مع انتفاء الموانع التي بيّن الله أحكامها في كتابه.
والقاعدة: ما كَلَفَ الله المؤمنين إلا ليعملوا بما كلفهم به، فكيف يكلّفهم بما لا يطيقون فعله؟!
٤- يستخدم السياق القرآني الفعل «كُتِبَ» المبني للمجهول، ومعه «عَلَيْكُمُ» للتعبير عن أمور تستثقلها النفس، وتحتاج إلى صبر ومصابرة لما فيها من مشقة.
ومع هذه المشقة أمر الله المؤمنين بالمصابرة على فعلها، بل وشدد على وجوب فعلها باستخدام فعل «كُتِبَ» وليس «فُرِضَ».
ذلك أنَ «الكتابة» في سياق «التكليف» أوْثَق، فأنت إذا كلفت شخصًا بعمل شاق «شفاهة»، دون «توثيق» لماهية العمل وشروط تنفيذه، لن تستطيع محاسبته عندما يقدم لك العمل مخالفًا لما طلبت.
ولذلك وردت صيغة «كُتِبَ عَلَيْكُمُ» في خمسة مواضع في كتاب الله، كلها في سورة البقرة، على نحو لا خيار للمسلم فيه، مع انتفاء الأعذار:
١- «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ..»
٢- «كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ..»
٣- «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ..»
٤- «كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ..»
٥- «.. هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ أَلاَّ تُقَاتِلُوا..»
وليس موضوعنا الحديث عن:
«كُتِبَ لَهُم – لَهُنَّ»، أو «كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ»
خامسًا:
عندما يكون «المستمع» لا يملك علمًا، ويكون «المُسْمِع» لا يملك علمًا، ويكون الموضوع خاصًا بفهم القرآن واستنباط أحكامه، فإننا نكون أمام مصيبة فكرية عقدية عقلية!!
إن قراءات «د.م. محمد شحرور» تسعى إلى إسقاط أحكام القرآن، تمهيدا لإسقاط التنزيل الحكيم كله، بعد أن فرّق بين «الكتاب» و«القرآن»!!
والمضحك المبكي أنه ضيّع عمره في إنبات شجرة تسقط ثمارها كلها بنفخة هواء علمية!!
ولكن المشكلة في المساكين أتباعه، الذين اعتادوا على أكل ثمار ساقطة على الأرض فاسدة!!
محمد السعيد مشتهري
https://youtu.be/OAaKskvA88w