مقدمة لابد منها قبل استكمال موضوع «تعدد الأزواج»
يقول الله تعالى في سياق الحديث عن الطائفتين المتقاتلتين:
«فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»
فلماذا قال «وَأَقْسِطُوا»، وقد قال قبلها «فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ»؟!
أولًا: «العَدل»: بالفتح ضد «الجَوْر»
و«عَدَلَ» عن الطريق: أي «جار»
و«العَدل»: ما عَدل الشيء من غير جنسه
و«العَديل»: الذي يعادل غيره في الوزن والقدر
و«العديل»: بالكسر يعني «المِثْل»
و«تَعْديل» الشيء: تقويمه
و«تَعْديل» الشهود: وصفهم بالعدول.
وتأتي «عَدْلٌ» بمعنى «الفدية»:
«وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ»
«وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا»
«أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً»
ويأتي الفعل «يَعْدِلُونَ»: بمعنى الإشراك بالله، وذلك بمماثلة غير الله له سبحانه:
«ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ»
أولًا:
يُفهم من ذلك أن «العدل» قيمة «أخلاقية» محلها القلب السليم، تستصحب المؤمن في جميع أمور حياته، حاملًا الحق، حتى في حال غضبه وكراهيته للآخر.
إن «العدل» ليس قيمة «مادية» يمكن وزنها بالميزان المادي، فقد يكون «الميزان» بيد «جائر» فلا يُعطي الوزن الصحيح.
ولذلك يدور الأمر بـ «العدل» في السياق القرآني حول الحق والباطل، التقوى والهوى، الحب والكراهية.
ثانيًا:
مثال ذلك:
١- «وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى»
٢- «وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى»
٣- «فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا»
٤- «وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ»
٥- «وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ .. وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمْ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ»
٦- «وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً .. يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ»
٧- «وَأَشْهِدُوا ذَوَى عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ»
ثالثًا:
«القِسط»: ويعني الحصة والنصيب.
نقول قَسّطنا الشيء بيننا، أي أن «القسمة» تمت من غير «جور».
ولذلك سمى الله «الميزان» بـ «القِسطاس»، فقال تعالى:
«وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ»
وارتبط «القسط» بـ «الميزان» في كثير من الآيات.
والسؤال:
لماذا يحب الله المقسطين: «إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ»، ولم تأت إشارة إلى حب الله لـ «العدول»، فماذا يعني هذا؟!
لأن «القسط» يخضع لموازين وحسابات دقيقة، قد تكون أشق على النفس وأصعب، من «العدل» المتعلق بالحقوق المعنوية التي قد يتدخل فيها «هوى» النفس.
ولذلك قال تعالى:
«فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا»
فعطف على العدل «القسط» ليحث الناس على الأخذ بالمعايير الدقيقة عند الإصلاح بين المتخاصمين.
رابعًا:
ولذلك جاء «القسط» في سياق المحافظة على حقوق «اليتامى»، والنهي عن التلاعب بأموالهم، الأمر الذي يحتاج إلى حسابات دقيقة.
ومن الآيات التي ورد فيها الأمر بـ «القسط»:
١- «وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ»
٢- «وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ»
٣- «وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ»
٤- «..الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ .. أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ»
٥- «قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ»
٦- «..وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ»
٧- «وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً»
ويوم يُقضى بينهم وبين رسولهم محمد بـ «القسط»:
«فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ»
خامسًا:
ولقد ورث المسلمون عادات الجاهلية وكانوا يتعاملون بها حتى نزل القرآن بتحريمها، ومن ذلك نكاح الأوصياء «يتامى النساء» دون إعطائهن حقوقهن الزوجية كاملة.
فنزل القرآن يأمر المسلمين جميعًا بالابتعاد نهائيًا عن نكاح «يتامى النساء» إن خافوا عدم «القسط» في حقوقهن، فقال تعالى:
* «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى»
ولذلك أمر الله الذين يشعرون بالخوف من عدم القسط في اليتامى إن هم تزوجوا من «يَتَامَى النِّسَاءِ»، أن يبتعدوا تماما عن هذا النكاح، ويذهبوا إلى نكاح النساء من غير «اليَتَامَى»
ولقد قيّد الله «نكاح النساء» بقيد العدد، فقال تعالى:
«فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ»
واشترط «العدل» بينهن، وإلا:
* «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً..»
وجاء هنا بـ «العدل» وليس «القسط» لأننا أمام «نكاح» تحكمه المشاعر القلبية، لا الحسابات الدقيقة كما هو الحال مع اليتامى.
ولكون تحقق شرط «العدل» في المشاعر القلبية مستحيل، قال تعالى:
* «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ»
وذلك لتقرير حقيقة يعلمها الرجال والنساء، ولبيان أن الله لم يطلب العدل بمفهومه المطلق، وإنما إحداث توازن في المشاعر، فلا يميل الرجل كل الميل نحو جهة، وتترك الأخرى معلقة:
* «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ»
والسؤال:
هل يُعقل أن يبيح الله «تعدد الأزواج» بشرط «العدل» بينهن، ثم يأتي ويقول للرجال:
«وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ»
دون أن يُنزّل بعدها الحكم التشريعي الضابط لهذا العدل:
* «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ»؟!
هكذا يفهم أعداء «العدل»، وأعداء «القسط»، وأعداء «تعدد الأزواج»!!
«يتبع»
محمد السعيد مشتهري