مقدمة لابد منها:
المسألة الأولى: أقول وأكرر، وأكرر فأقول:
إن مشروعي الفكري لا ينطلق من قاعدة «ما هو كائن» بين المسلمين اليوم، ولا من «تدينهم الوراثي»، ولا من «علاقتهم الزوجية» القائمة على أي أساس كانت.
إن مشروعي الفكري ينطلق من قاعدة «ما يجب أن يكون»، استنادًا إلى ما ورد في نصوص «الآية العقلية القرآنية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، والمعاصرة للناس جميعًا اليوم.
وعلى الذين يعيشون في «ما هو كائن» أن يتحملوا مسؤولياتهم «الإيمانية» كاملة نحو «ما يجب أن يكون»، أي «نحو إسلام الرسول».
المسألة الثانية:
ووفق «المنهجية العلمية» التي أمرنا الله اتباعها عند تدبر القرآن، وعند التعامل مع أحكامه، علينا أن نبحث عن «الآية» التي حملت «أصل الحكم» الذي نريد استنباطه، ومن حكم هذه ننطلق إلى فهم الآيات التي حملت الأحكام المتفرعة عنه.
أولًا:
منذ عقود مضت، لم يحدث بيني وبين أي شخص أي خصومة «شخصية» فكلها كانت «خصومات فكرية» يحسبها «الجاهل» شخصية لعدم معرفته بفريضة «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» التي أصبحت مكونًا رئيسًا في شخصيتي.
ولذلك كان من الطبيعي أن أفتقد كثيرًا من الأصدقاء، بل ومن المُقرّبين!!
إن «د. محمد شحرور» ليس وحده الذي شهدت هذه الصفحة نقض مشروعه الفكري «السني»، فقد سبق أن نقضت كثيرًا من المشاريع الفكرية دون ذكر أصحابها، ومنهم «د. أحمد صبحي منصور».
وعندما ذكرت اسم «د. أحمد صبحي منصور» كان ذلك في سياق ادعائه أن كتاب «القرآن وكفى» من تأليفه، وفي سبتمبر عام «٢٠١٤م» كتبت خمس منشورات بعنوان «لماذا القرآن، والقرآن وكفى» لبيان حقيقة هذا الادعاء.
أما عن المشروع الفكري لـ «د. أحمد صبحي منصور» فلم يضع له قواعد منهجية تحمل أدوات مستنبطة من ذات النص القرآني.
لذلك ضيّع من عمره الساعات والساعات لتسجيل مئات الفيديوهات في نقد السلفية والوهابية لفرقة «أهل السنة والجماعة» التي ولد فيها، وكان يعمل في جامعتها الأزهرية!!
ثانيًا:
إن الذي يدخل «دين الإسلام» من بابه الصحيح، باب «الآية العقلية القرآنية»، يخلع على الفور ثوب السلفية المذهبية، ولا يلبسه مرة ثانية مطلقا، وإن كان ذلك بدعوى هدم التراث أولًا قبل فهم القرآن!!
ولقد كانت النتيجة عبر قرون مضت:
١- لا هم اجتمعوا على «دين الإسلام» الذي كان عليه رسول الله.
٢- ولا هم فهموا القرآن.
٣- ولا هم هدموا صفحة واحدة من مرجعيات تراث فرقة واحدة فقط من الفرق الإسلامية.
ومن الأمثلة على غياب «المنهجية العلمية» التي تحمل أدوات تدبر القرآن، إباحة «د. أحمد صبحي منصور» تعدد الأزواج دون التقيد بـ «أربع»، أي إلى ما لا نهاية!!
ويستند في ذلك إلى آية لا علاقة لها مطلقا بالموضوع، وهي قوله تعالى في سورة فاطر «الآية ١»:
* «الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ»
* «جَاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ»
* «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ»
* «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
لقد ظن أن جملة «مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ» الموجودة في هذه الآية يمكن أن تكون هي «أصل الحكم» الذي على أساسه نفهم قوله تعالى:
* «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ»
فأضاف جملة «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ» إلى هذه الآية، لتصبح:
* «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ … يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ»!!
وهذه مشكلة التعامل مع القرآن بمعزل عن أدوات فهم آياته، وفي مقدمتها علوم اللغة العربية، وعلم السياق القرآني.
ثالثًا:
لقد جاءت «الآية ١» من سورة فاطر في سياق بيان «دلائل الوحدانية»، وجاء قوله تعالى «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ» لبيان فعاليات القدرة الإلهية المطلقة، ولذلك عقب بقوله تعالى:
* «إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»
فإذا ذهبنا إلى «الآية ٣» من سورة النساء، نجد أنها تتحدث عن حكم تشريعي، كان من الضروري أن تكون كلماته «قطعية الدلالة»، حتى يستطيع المؤمنون التعامل معه دون زيادة أو نقص.
١- وبالدلالة القطعية توقف «عدد» النساء عند «الأربعة»:
* «فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ»
إذن فهذه الآية هي «الأصل» في بيان حكم «التعدد» دون قيد أو شرط، «مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ».
٢- أما «الفرع» و«الاستثناء»، فهو في قوله تعالى:
* «فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً»
ونلاحظ أن «الواحدة» لم ينص عليها أصلًا في السياق من قبل، وذلك لبيان:
# أن الحكم العام:
الحد الأدنى «مَثْنَى»، والأقصى «رُبَاعَ».
# وأن الحكم الفرعي «الاستثناء»: «واحدة»
وذلك في حالة الخوف من عدم العدل «المادي».
وأن الأصل في الزواج هو «التعدد» والجمع بين النساء، فتدبر:
«وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الأُخْتَيْنِ إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ»
٣- ولماذا كان المقصود «العدل المادي» وليس أيضا «المعنوي»؟!
لأن «العدل المعنوي» مستحيل، ولذلك قال تعالى في نفس السورة «الآيات ١٢٩-١٣٠»:
* «وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ»
٤- ولاحظ هذا الأسلوب البلاغي الجامع الشامل «وَلَوْ حَرَصْتُمْ»، ولذلك قال بعدها مبيّنا أن المقصود هو الميل القلبي:
* «فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ»
فالله تعالى يحذر الرجل أن يميل كل الميل نحو «أزواجه»، باستثناء واحدة يتركها «معلقة»!!
* «وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُوراً رَحِيماً»
فإن لم يستطع إعطاءها حقها «المعنوي»، وفشلت محاولات الإصلاح بينهما، فليكن الطلاق:
* «وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعاً حَكِيماً»
رابعًا:
وأذكر فأقول:
هذا «ما يجب أن يكون»، استنادا إلى ما سبق من نصوص قرآنية قطعية الدلالة.
ولا علاقة له بـ «ما هو كائن»، حتى أغلق الباب أمام هواة «الجدل العقيم»، وحتى لا نُضيّع الوقت في «الشرط» و«جواب الشرط» في قوله تعالى:
* «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا … فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً..»
مع قوم لا يعلمون أصلًا:
١- ما هو «الشرط» وما هو «جوابه».
٢- لماذا ربط الله بين مسألة الخوف من القسط في اليتامى:
«وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى»
وبين نكاح:
«مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ»
٣- وأن قوله تعالى «مَا طَابَ لَكُمْ» جاء في سياق النهي عن نكاح اليتيمات إلاّ أن يقسط الراغبون في نكاحهن في صداقهن، وإلا فليبتعدوا تماما عن نكاحهن، وأمروا أن ينكحوا ما طاب لهم من النساء «سواهنّ».
٤- الأمر الذي يستحيل الوقوف عليه إلا بتدبر وفهم قوله تعالى في نفس السورة «الآية ١٢٧»:
«وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلْ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنكِحُوهُنَّ …»
من أجل ذلك جَعَلْتُ القضية محددة ومحصورة في بيان حجية «التعدد» باعتبار أنه «الأصل»، والاستثناء هو «الواحدة»، دون الدخول في تفاصيل كل ما سبق الإشارة إليه.
خامسًا:
إن استحلال «فروج النساء» لا يكون إلا في إطار «الآية الكونية» التي غفل عنها المسلمون، فأقاموا أنكحتهم على «الفقه الموروث»!!
ثم جاء أصحاب القراءات المعاصرة التنويرية فأخرجوا المسلمين من أنكحة «الفقه الموروث» إلى أنكحة ما أنزل الله بها من سلطان!!
إن استحلال «فروج النساء» لا يكون إلا انطلاقًا من قوله تعالى:
* «وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»
فتدبروا جيدًا هذه القواعد الراسخة لحياة زوجية لا تفوز فقط بسعادة الدنيا، وإنما بسعادة الدنيا والآخرة:
١- «أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا»
٢- «وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً»
٣- «لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»
ولماذا الآيات «لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ»؟!
وكيف تتحقق هذه المعاني والتعبيرات البلاغية مع نكاح «يستحل الفروج» لمدة ثلاث ليال، فإن أرادا الاستمرار استمرا، وإن أرادا الانفصال انفصلا، وكل هذا من أجل «متعة جنسية» حيوانية!!
هذه هي القراءات القرآنية المعاصرة التنويرية التي يرضى عنها «إبليس»، وترضى عنها منظمات الإلحاد العالمية.
محمد السعيد مشتهري