يظن كثير من المسلمين أن مفهوم «الاستطاعة» في هذه الآية، وفي غيرها، معناه حسب «مزاج وهوى كل مؤمن»، ويستدِلّون على ذلك بقوله تعالى «مَا اسْتَطَعْتُمْ»!!
فيفهمون «مَا اسْتَطَعْتُمْ» على أنها رخصة، فيتقي المؤمن الله حسب استطاعته، وعليه يكون التزامه بأحكام القرآن أيضا حسب استطاعته، أي أنها رخصة لتخفيف أحكام القرآن عن المؤمنين!!
ولذلك، وبناء على هذه الرخصة، يستحيل أن يأتي اليوم الذي نرى فيه المؤمنين، وقد انتقلوا من دائرة «ما هو كائن»، إلى دائرة «ما يجب أن يكون»!!
# أي «استحالة أن يُغيّروا ما بأنفسهم»!!
أولًا:
إذا تدبرنا سياق الآية نجد أنها بدأت بـ «الفاء» «فـ َاتَّقُوا اللَّهَ»، هذا معناه أن موضوع هذه الآية مرتبط بما قبلها، وهو خطاب الله للمؤمنين بالحذر من «فتنة الأزواج والأولاد»، فتدبر:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ..»!!
ثم بيّن الله بعدها لماذا هذا التحذير، فتدبر:
* «إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ»
ثم قال تعالى:
* «فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا..»
ويستحيل أن نكون أمام «فتنة» خطيرة نكون فيها أمام «عدو»:
* «إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلادِكُمْ عَدُوّاً لَكُمْ»
ثم يُخيّر الله المؤمنين بين أن يواجهوا هذه «الفتنة» أو لا، كلٌ حسب استطاعته، وهي مسألة نسبية يحكهما «الهوى»؟!
ثانيًا:
إن «الاستطاعة» هي القدرة على الفعل بتمامه وكماله، أي دون نقص في أدائه، وذلك بتوافر الأسباب التي يستلزمها الفعل، فإن كان هناك عَجْزٌ في الأسباب فلا واجب مع العجز.
وعليه فإن «مَا اسْتَطَعْتُمْ» لا تعني الترخص أو التساهل في مواجهة «فتنة» الأموال والأولاد، وذلك لأن «ما» تُسمّى «مصدرية ظرفية» لا تتعلق بموقف أو بظرف معين وينتهي مفعولها كـ «رخصة».
إن «مَا اسْتَطَعْتُمْ» تشمل الأزمان كلها، والأحوال التي يكون عليها المؤمن في هذه الأزمان، والتي يجب ألا يتخلى فيها عن «تقوى الله» لحظة.
فيكون المعنى:
اتقوا الله بكل ما تملكون من قدرة، حتى لا تضعف النفس في مواجهة عداوة وفتنة الأزواج والأولاد والأموال، وعليه ينسحب هذا المعنى على وجوب الالتزام بجميع أحكام القرآن دون أدنى نقص.
فإذا كانت هناك قدرة على تنفيذ الفعل، ولكن بـ «مشقة» تجعله لا يتم كاملًا، فهنا تبحث كل حالة على قدرها.
ثالثًا:
١- إن الذي يستطيع «الصلاة» بـ «هيئتها التامة» لا يحل له الصلاة جالسًا، والذي يكون في موقف خوف أو حرب يُقصر من الصلاة، أو يصلي راكبًا أو ماشيًا:
* «أَنْ تَقْصُرُوا مِنْ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمْ الَّذِينَ كَفَرُوا»
* «فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً»
٢- إن الحج «فريضة» كباقي الفرائض، إلا أنها مُقيدة بـ «الاستطاعة»:
* «وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلَاً»
ومناسك وشعائر الحج يجب أن تؤدى في «زمن ومكان» محددين، يأتي الناس إليه من كل فج عميق.
# فكان مناط التكليف هو «القدرة المالية والبدنية»، فمن يملكهما ولا يؤدي هذه الفريضة آثم قلبه.
٣- إن «صلاة الفجر» ينتهي وقتها بشروق الشمس، وكثير من المسلمين لا يصلونها بدعوى أنهم لا يستطيعون أداءها، لا هم ولا أولادهم!!
لماذا يا أهل الخير:
لأننا ننام في ساعات متأخرة من الليل، ويصعب علينا القيام للصلاة!!
(أ) الحقيقة أنهم يستطيعون، فيستحيل أن يُكلف الله «الذين آمنوا» بأداء شيء فوق طاقتهم!!
(ب) إن هذه الأسرة، التي تقول إنها لا تستطيع «صلاة الفجر»، إن كان هناك أمر فيه مصلحة دنيوية، تنْهَض إليه وتظهر وقتها استطاعتها!!
(ج) عندما تقرر الأسرة السفر للسياحة والاستمتاع بأحد الشواطئ، نراهم يسهرون في الإعداد لذلك، وينامون ساعتين أو ثلاث، ثم يستيقظون بعد شروق الشمس، ويسافرون!!
٤- إن عدم «صلاة الفجر» في وقتها، يعني الإصرار على تركها، وهذا «الإصرار» مصيبة «عقدية» كبرى، بقرينة فعل الأمر الوارد في قوله تعالى:
* «أَقِمْ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً»
إن هذا الأمر «أَقِمْ» يشمل عدد الصلوات التي شملتها هذه الآية، «من دلوك الشمس إلى غسق الليل»، وهي ليست موضوعنا.
كما يشمل فعل الأمر «صلاة الفجر»، وقد خصّها الله بتلاوة القرآن «وَقُرْآنَ الْفَجْرِ» لأن في هذا الوقت يكون الذهن صافيًا، لم ينشغل بشؤون الدنيا.
٥- إن «التدخين» من كبائر الإثم والفواحش، وعندما نقول هذا للمدخن يقول لنا:
«لا أستطيع فراق السيجارة»!!
والحقيقة أنه يستطيع «إن أراد»، وبرهان ذلك أنه يستطيع التوقف عن التدخين نهار رمضان، أي شهرًا!!
# إنها «غلبة الشهوة» التي تأخذ بالْمُصِر عليها إلى جهنم.
والخلاصة:
إن ما سبق بيانه هو الأزمة الحقيقية وراء عدم استطاعة المسلمين الانتقال من:
«عالم ما هو كائن» إلى «عالم ما يجب أن يكون»!!
والسبب:
غياب «مجتمع الإيمان والعمل الصالح» الذي يُرَبّينا قبل أن يُرَبي أولادنا!!
محمد السعيد مشتهري