سيأتي يوم القيامة، يوم تظهر فيه الحقائق المطلقة، ويَعَلَم أقوام الرسل أن «الله» حق، وأن «النبوة» حق، وأن «الكتب الإلهية» حق، وأن الكتاب الخاتم الذي حمل «الآية العقلية القرآنية» الدالة على صدق نبوة رسول الله محمد، حق.
لقد انحرف أتباع عيسى، عليه السلام، عن رسالته، وأشركوا بالله ما لم يُنزّل به سلطانًا، ونزل القرآن يُبيّن لهم ماذا سيقول عيسى لربه يوم القيامة عندما يسأله:
«أَأَنتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّي إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ»
ولقد تبرأ عيسى من أتباعه الذين أشركوا.
فتعالوا نفترض أن الله أرسل رسولًا بعد رسوله محمد، وأنزل في كتابه سؤالًا لمحمد يوم القيامة، هو نفس السؤال الذي وجهه لعيسى، عليهما السلام.
أولًا:
لقد اقتضت مشيئة الله أن يكون محمد خاتم النبيّين، وأن يكون كتابه هو «الآية العقلية القرآنية» الدالة على صدق نبوته إلى يوم الدين، فلا نبي بعده، وإنما رسالة للناس جميعًا، يحملها كلُّ من آمن وأسلم وجهه لله تعالى.
فكان من المنطقي أن تحوي هذه الرسالة نفس السؤال الذي سأله الله لعيسى عن شرك أتباعه بعد موته، ولكن في صورة «تحذير من الشرك»، حتى لا يقعوا فيه، فقال تعالى لرسوله محمد:
«فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً … مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ … وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ»
«مِنْ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»
ثانيًا:
ولقد حذر الله صحابة رسول الله من «الانقلاب على الأعقاب»، وهو لا يقل خطورة عن «التفرق في الدين»، فقال تعالى:
* «وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ ..»
١- فلماذا انقلبوا على أعقابهم بعد موت رسول الله؟!
٢- ولماذا استحلوا سفك دماء بعضهم بعضا في «فتنة شيطانية» فرقتهم في الدين، ومزقتهم إلى أحزاب «كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ»؟!
٣- ولماذا استمرت فتنة «التفرق في الدين» الشيطانية إلى يومنا هذا، والمسلمون سعداء بها؟!
٤- ولماذا بعد بلوغ المسلمين الرشد، لم يتوقفوا أمام هذه «الفتنة الشيطانية» ولم يدرس كل تابع منهم متى ظهرت فرقته التي يتدين بمذهبها العقدي وراثيًا؟!
٥- ولماذا ظهر أصحاب القراءات المعاصرة والمستنيرة من داخل هذه «الفتنة الشيطانية»، ولم ينسخلوا منها، ومن تراثها الديني، قبل أن يرفعوا راية المعاصرة والتنوير؟!
٦- وعندما أرادوا إنقاذ المسلمين من أباطيل تراثهم الديني، لماذا ذهب أتباع كل فرقة إلى كتب الفرقة التي ولد فيها، فذهب السني يتحدث عن «البخاري»، وذهب الشيعي يتحدث عن «الكافي»..، ولسان حال كل واحد منهم يقول:
إن فرقتي هي الفرقة الناجية «إن شاء الله»!!
ثالثًا:
إن الذين ينكرون أن المسلمين يعيشون داخل منظومة فتنة «التفرق في الدين» الشيطانية، منذ قرون مضت، هؤلاء لا يعلمون شيئًا عن هذه الفتنة، فـ «السكوت خير من الكلام».
١- لقد تبرأ رسول الله محمد من أعضاء هذه المنظومة، ولكن الإشكال أن التحقق من صحة ذلك لن يكون إلا يوم القيامة، يوم يقول الرسول لربه، كما قال عيسى، عليهما السلام:
* «مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ – أَنْ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ – وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَا دُمْتُ فِيهِمْ»
* «فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ – وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ»
«مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ »:
فهل أمر الله رسوله محمدًا أن يقول للمسلمين:
كونوا فرقًا ومذاهب عقدية سنية وشيعية…، واعطوا ظهوركم لقولي:
«وَلا تَكُونُوا مِنْ الْمُشْرِكِينَ»؟!
٢- هل أمر الله نجوم القراءات السلفية والقرآنية والمعاصرة والمستنيرة، أن يعيشوا حياتهم الدينية داخل هذه «الفتنة الشيطانية»، مع اختلاف مقاعدهم!!
فنرى فريقًا يدافع عن تراث فرقته الديني، وآخر يريد تنقيته، وثالث يريد حرقه، ومساكين أصابهم «الهوس الديني» يريدون استخراج جثث أئمة السلف وحرقها!!
فلماذا تخصص أتباع كل فرقة في نقد ونقض تراثها الديني، واعتبار أن هذه الفرقة هي «الأمة الإسلامية»، فنرى من يقول «إضلال الأمة بفقه الأئمة»؟!!
ألم أقل لكم «منهجية عشوائية»، و»هوس ديني»؟!
رابعًا:
يستحيل أن تستضيف مؤسسة دينية رسمية تابعة لفرقة من الفرق الإسلامية نجمًا من نجوم المعاصرة والتنوير، إلا إذا كانوا يعلمون أنه لن يمس مذهبهم العقدي بسوء.
١- لقد فهم بعض المسلمين استقبال المؤسسة الدينية الرسمية بسلطنة عمان للدكتور عدنان إبراهيم أنهم يقبولون توجهه الفكري والعقدي..، والحقيقة غير ذلك.
إن الدكتور عدنان إبراهيم موسوعة علمية وثقافية وفلسفية، و(دينية سنية)، ويستطيع أن يذهب ويتكلم في أي محفل من المحافل الفكرية والدينية، مهما كانت ملة الحضور، ولكن بشرط:
ألا يقترب من فتنة «التفرق في الدين»، وألا يمس المذهب «الأباضي» من قريب أو من بعيد.
ثم بعدها يعود د. عدنان إبراهيم «سنيًا» كما ذهب، ويظل العمّانيّون «أباضيّين».
٢- كما يظن البعض أن انتشار الظاهرة «الشحرورية» في دول الخليج، وخاصة «السعودية»، يُبشر بخير قادم، وأن يوم انتصار «دين الإسلام» قد اقترب، يوم يخطب «د. شحرور» الجمعة في المسجد الحرام!!
أقول:
لو حدث هذا فعلا، ما العجب فيه؟!
مفكر سني «مستنير»، ذهب يُحدّث «الوهّابيّين» عن الفكر المستنير، ولكن هل يستطيع أن يتلفظ بكلمة واحدة ينتقد فيها «العقيدة الوهّابية»؟!
خامسًا:
١- لقد قام «دين الإسلام» على «الوحدانية»، وعلى «الشرط» الذي أخذه الله على «الذين آمنوا وعملوا الصالحات»، للوفاء بوعده:
(أ) «لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ»
(ب) «وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمْ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ»
(ج) «وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً»
وكان الشرط الذي على أساسه يحقق الله لهم الوعد هو:
* «يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً – وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْفَاسِقُونَ»
٢- والسؤال:
هل حقق الله للمسلمين ما وعدهم به؟!
لا، لماذا؟!
لأنهم إلى يومنا هذا لم يحققوا «الشرط»، وظلوا متمسكين بتفرقهم في الدين، وقد حذرهم الله منه، وتوعدهم بجهنم إن هم ماتوا على ذلك.
٣- ولذلك أقول لأصحاب القراءات المعاصرة والمستنيرة:
لقد سُجنت لأني دعوت علماء من الفرق الإسلامية المختلفة للاطلاع على مشروعي الفكري، لمناقشته في مؤتمر عام تحت عنوان:
«السنة والتشريع وأزمة التخاصم والتكفير»
ويبدو أنه كان «منامًا» واستيقظت منه!!
لذلك لا تضيعوا أوقاتكم في شيء جذوره ثابتة راسخة ممتدة في الأرض إلى عصر الفتن الكبرى!!
وأقول لأصحاب «المنهجية العشوائية»:
إن قولكم:
«نحن نستفيد من كل التوجهات الدينية، نتفق مع بعضها، ونختلف مع البعض، ثم نستفتي قلوبنا»
هو عين «العشوائية الفكرية»، لأن هذه المنهجية المعرفية إن ثبت عندكم صحتها في اتباع علوم معينة، لا تصح مطلقا عند اتباع «دين الإسلام».
إن القاعدة التي قام عليها «دين الإسلام» قاعدة ثابتة راسخة، هي قاعدة «الآية العقلية القرآنية» التي تعهد الله بحفظ نصوصها إلى يوم الدين.
وهذه «الآية العقلية القرآنية» ليست محل استفتاء القلوب.
٤- فإذا انطلق المسلمون جميعًا، عند تعاملهم مع القرآن، من قاعدة «الآية العقلية القرآنية»، فلن نكون أمام خلافات مذهبية تحتاج إلى استفتاء القلوب.
إن التعامل مع القرآن باعتباره «آية عقلية»، يثمر وجوهًا للفهم متعددة، تقتضيها عطاءات النص القرآني، وتحتاج إلى تفعيل آليات عمل القلوب، آليات التفكر والتعقل والتدبر…، وكلها ثمار مقبولة، طالما أنها تقوم على أدوات فهم مستنبطة من ذات النص القرآني.
ويبقى السؤال قائما:
هل عندما دخل المشركون في «دين الإسلام»، وكانو من «الذين آمنوا»، و«اتبعوا الرسول»…، هل ظلوا يلبسون لباس الجاهلية، أم خلعوه كلية؟!
فلماذ يُصر المسلمون على الدخول في «دين الإسلام» وهم يلبسون لباس تراثهم الجاهلي، بدعوى أنه يساعدهم على تصحيح المفاهيم الباطلة العالقة به؟!
أَفَلا تَعْقِلُونَ
محمد السعيد مشتهري