لقد كانت الشعوب والقبائل تُطلق على «ملك اليمين» أسماءً مختلفة، كـ «العبيد»، «الرقيق»، «المماليك»، «الإماء»، فيقولون «أَمَة»، «جارية»، «فتاة»، «فتى»، «عبد»، «مملوك»، ذلك أن الكل في أصله «ملك اليمين».
ولقد كان لـ «ملك اليمين» عند كل شعب، ولكل قبيلة، أسماء حاملة للصفة التي يريدون وصف المملوك بها:
فيسمّون المملوكة «جارية» باعتبار أنها لا تملك من أمر نفسها شيئًا، كالماء «الجاري» الذي يسير حسب ما تذهب به الرياح.
ويُسمّون المماليك «رقيق» باعتبار رقّة قلوبهم وخضوعها لمالكهم.
ولذلك فإن الذين يقولون إن «ملك اليمين» غير «الرقيق»، وغير «الرقاب»، وغير «العبيد»..، هؤلاء سقطوا على المسلمين من السماء، وما كان لهم أن يقتربوا من القرآن أصلًا.
إن «النكاح» الذي أحله الله تعالى «نكاحان»، فقط لا غير:
# نكاح امرأة «مؤمنة مسلمة حرة»، وهو قائم إلى يوم الدين، وليس له أي اسم آخر، أو توصيف غير هذا.
# نكاح «ملك يمين» وقد حَرّمه الله يوم حرّم «الاسترقاق»، وأبقى على «ما سلف»، وأمر المسلمين العمل على عتق ما يملكون، بأكثر من طريقة مفصلة في كتاب الله، وليس لهذا النكاح أي اسم آخر.
وبرهان ذلك قوله تعالى:
أولًا:
* «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ»
فهل معنى هذا أن أزواج النبي لم يكنّ حلالًا حتى نزلت هذه الآية؟!
هنا تظهر أهمية علوم اللغة وعلم السياق، فليس المقصود بيان «حلّية» الأزواج، وإنما بيان «تحريم» الزواج بـ «ملك يمين» بعد نزول هذه الآية، سواء للنبي أو للمسلمين، في قوله تعالى بعدها:
* «وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ»
# و«الفيء» هو ما غنمه المسلمون من العدوّ بغير قتال، لقوله تعالى:
* «وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ»
* «مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ»
# «أَوْجَفْتُمْ»: يقولون وجف الفرس أي أسرع في سيره.
# «الركاب»: الإبل المركوبة.
# أما «الغنيمة» فهي ما غنمه المسلمون بقتال، لقوله تعالى:
«وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ… إِنْ كُنتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ»
ثانيًا:
عندما تتعلق أحكام الحلال والحرام بقضايا عامة تخص جميع المسلمين، وينزل نص قرآني يخاطب النبي بها، كقوله تعالى:
* «يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ»
فإن هذه الأحكام تصبح مُلزمةً لجميع المسلمين.
ولذلك لا يُفهم من كلمة «لك» في «إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ» أنها خاصة بالنبي، وإنما هي للنبي وللمسلمين جميعًا إلى يوم الدين، بناء على القرينة الواردة في نفس سياق الآية، وهي قوله تعالى:
* «وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا – خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِين»
والمتدبر لسياق الآية، يعلم أن أحكامها عندما وصلت إلى ما يخص النبي وحده، نص الله على هذه الخصوصية:
* «خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِين»
والسؤال:
لماذا قال الله تعالى:
«يَـ سْتَـ نكِحَهَا»، بإضافة «السين والتاء» ولم يقل «ينكحها»؟!
ذلك لأن «السين والتاء» يأتيان لتأكيد الفعل، وليس لطلبه، ولما كانت المرأة هي التي طلبت النكاح، كان لابد من بيان أن إرادة النبي توجّهت إلى «فعل» ما طلبته.
ثالثًا:
ومن باب العمل على فك رقاب «ملك اليمين» في «عصر التنزيل»، ووجوب مساعدة من لا يستطيعون الزواج، أمر الله الأولياء والسادة أن يُزوّجوا أو يَتزوّجوا من «الإمَاء» بهدف تحريرهم، فقال تعالى:
* «وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمْ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ»
# «الأَيَامَى» جمع أيِّم، وهو كل ذكر لا أنثى معه، وكل أنثى لا ذكر معها.
# «عِبَادِكُمْ» جمع «عبد» مملوك.
# «إِمَائِكُمْ» جمع أَمَة.
وقال تعالى لمن لم يستطع نكاح المرأة «الحرة» في «عصر التنزيل»:
* «وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمْ الْمُؤْمِنَاتِ»
ثم تدبروا يا من سلبتم من «الحرة» آدميّتها، فأصبحت «عبدة» لشهواتها الجنسية، بدعوى أنها أصبحت في القرن الواحد والعشرين مما «ملكت أيمانكم».
تدبروا هذا «الشرط» الذي يحرم نكاح «ملك اليمين» إذا لم يكن محققًا، وهو قوله تعالى:
* «ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ»
لقد قيّد الله نكاح «ملك اليمين» بشرط «الْعَنَتَ»، ولم يُترك بابه مفتوحًا على مصراعيه كما يظن «الجُهّال» أصحاب القراءات القرآنية المعاصرة والمستنيرة.
طبعا سينطقون الآن جميعا في نفس واحد ويقولون:
نحن جميعًا قد أصابنا «الْعَنَتَ»!!
لا يا أيها «الجُهّال»، فهذا الحكم ليس للناس اليوم، فقد مضى على تحريم العمل به، يوم حرم الله الاسترقاق، خمسة عشر قرنًا.
وعلى كل حال، فإن الله تعالى قال لمن خاطبهم بهذه الأحكام قبل تحريم الاسترقاق:
* «وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ»
والسؤال: أَتَصْبِرُونَ؟!
محمد السعيد مشتهري