نحو إسلام الرسول

(1065) 18/3/2018 «وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»

لقد بعث الله رسوله محمدًا و«الرق» منظومة عالمية، تجارية واقتصادية، لها جذورها التاريخية، وكانت تجارة «الرق» تُمثل الدخل الرئيس لمعظم الشعوب، لذلك كان يستحيل أن ينزل القرآن بإسقاط هذه المنظومة مرة واحدة.

لقد تعامل القرآن مع هذه الأزمة على أساس «مرحلية التشريع»، إلى أن استقر المسلمون في مجتمعهم، وقويت شوكتهم، فأغلق منابع «الاسترقاق»، وفتح مصارف «العتق».

ولقد كانت أهم منابع الرق «أسرى» الحروب، والغارات وقطع الطريق، وبيع الآباء والأمّهات أبناءهُمْ، والرهائن والتداين.

أولًا:

إن مصطلح «ملك اليمين» يصف «الآلية» التي نتج عنها الاسترقاق «الرق»، و«العبيد»، «الأمَة»، «الرقبة»..، فجميعهم كانوا «أحرارًا» ثم «طرأ» عليهم الملك والاستعباد.

لقد كانت النظرة إلى «ملك اليمين»، الذين هم أصلًا «أحرارًا»، نظرة دونية تهدر إنسانيتهم، ويفعل معهم «الأسياد» ما يشاؤون.

١- لم ترد كلمة «ملك اليمين» في السياق القرآني إلا مسبوقة باسم الموصول «ما» الدال على غير العاقل «مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»، إلا في آية واحدة جاء اسم الموصول «الذين»، وهي قوله تعالى:

* «لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ»

ولم يقل الله تعالى:

* «لِيَسْتَأْذِنْكُمْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ»

لبيان كيف كان الناس ينظرون إلى «ملك اليمين» باعتبارهم مخلوقات غير عاقلة، وسلعة تُباع وتشترى، فأنزلهم الله منزلة غير العاقل.

أما مجيء اسم الموصول «الذين» في قوله تعالى:

«لِيَسْتَأْذِنْكُمْ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»

فذلك لحكمة إلهية، وبلاغة بيانية، وهي أن السياق سياق تعليمي تربوي المفترض أنه يُخاطب «العقلاء»، الذين أمر الله «الذين آمنوا» أن يقوموا بتربيتهم.

٢- لقد نزل القرآن على قوم يعلمون الفرق بين الإنسان «الحر» والإنسان «العبد»، وأن «العبد» ما هو إلا «مملوكٌ» لا يقدر على شيء، وعلى هذا الأساس خاطبهم الله بقوله:

* «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَّمْلُوكًا لَّا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ»

فإنزال صفة «الملكية» على «العبد» جاء باعتبار أن المخاطبين يعلمون من خلال حياتهم اليومية مع «ما ملكت أيمانهم» معنى هذا المثل.

٣- لقد عرف العرب، من قبل نزول القرآن، أن «الملك» يعني الحيازة التي تعطي لصاحبها حرية التصرف في «المملوك» بالانتفاع أو البيع.

وأن الإنسان «الحر» هو الذي يملك زمام أموره.

لذلك قال تعالى بعدها لبيان الفرق:

* «وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا»

ثم عقب بقوله تعالى:

* «هَلْ يَسْتَوُونَ»؟!

# إذن فـ «ملك اليمين» مصطلح قرآني خاطب الله به العرب الذين كانوا يعرفون معناه من قبل نزول القرآن، ويستحيل تعدي حدود معناه، ولا الخروج عن أحكامه التي نص عليها الله في كتابه.

ثانيًا:

لم يكن من الممكن أن ينزل «نص قرآني» بتحريم «ملك اليمين» لأن هذا معناه قلب الكيان الاقتصادي والأسري للمجتمع رأسًا على عقب، وهذا ليس من حكمة التشريع، ولا من مقاصد القرآن.

وإن الدارس المتدبر للقرآن يعلم، أنه ليس شرطًا أن ينص على التحريم بكلمة «حُرّمت»، فهناك عشرات الآيات، تحمل ما هو عند الله من أكبر الكبائر، ولم ترد فيها كلمة «حُرّمت».

١- كقوله تعالي:

* «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ»

أو ليست «الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ» من المحرمات؟!

إذن فأين كلمة «حُرّمت»؟!

٢- ويقول الله تعالى:

* «وَلا تَقْرَبُوا الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلاً»

فهل معنى هذا أن «الزنى» حلال لأن القرآن لم ينص على حُرمته بكلمة «حُرّم»؟!

٣- وعندما يقول الله تعالى:

* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ…. رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ»

* «ِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ»

* «وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ»

فهل معنى هذا أن شرب «الخمر» حلال لأن السياق لم ترد فيه كلمة «حُرّمت» وإنما «الاجتناب» فقط؟!

فأين نذهب إذن بهذه «القرائن» الدالة على «التحريم»:

«عَمَلِ الشَّيْطَانِ» – «يُوقِعَ بَيْنَكُمْ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ» – «وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنْ الصَّلاةِ» – «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنتَهُونَ»؟!

وعشرات الأمثلة غير ذلك.

٤- إذن فليس شرطًا أن ينص الله على تحريم «ملك اليمين» بكلمة «حُرّمت»، ويكفي على بيان «التحريم» آليات فتح المصارف «العتق»، وغلق منابع «الاسترقاق»، حتى نزل القرآن بإغلاق المنابع تماما، وفي مقدمتها «أسرى الحروب»، فقال تعالى:

* «فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا»

# «فَشُدُّوا الْوَثَاقَ»:

كناية عن الأسر، و«ملك اليمين»، ونحن نرى إلى يومنا هذا القيود التي تُشد بها أيدي الأسرى.

# «فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً»:

أي إما تمّنون عليهم وتُطلقون سراحهم، وإما تُخلّصونهم من الأسر بعوض مالي، أو بتبادل الأسرى.

# لقد أنهى الله تعالى قضية «ملك اليمين» كلية، وذلك بإغلاق جميع منابعه، بعد أن تدرّجت الأحكام في التعامل مع «آثاره» والواقع الذي كان موجودًا في معظم بيوت المسلمين.

ثالثًا:

لقد تعامل القرآن مع أزمة «ملك اليمين»، الموروثة عن عصر الجاهلية، بمبدأ «المثلية»، حسب النظام والتقاليد التي كانت متبعة مع «الرقيق»، فكما كان العدو يأخذ رجال ونساء المسلمين «ملك يمين»، فكذلك كان يفعل النبي مع عدوه.

١- لقد كان يقع في «الاسترقاق» نساء «متزوجات» ويصبحن «ملك يمين»، ومعنى أن «الملك» طرأ عليهن أن تنفصل الرابطة الزوجية مع زوجها، ويصبح بإمكان أي مسلم نكاحها بـ «عقد نكاح» بعد براءة رحمها.

وفي ذلك نزل قول الله تعالى في سياق بيان المحرمات من النساء:

«وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ»

أي يحرم على المؤمنين نكاح النساء «المتزوجات»، إلا إذا كانت هذه المرأة المتزوجة قد طرأ عليها «الملك» نتيجة «الأسر»، وأصبحت «ملك يمين».

ولقد كان هذا هو النظام المتبع بين الشعوب في حالة «الأسر»، إذا طرأ «المِلك» على امرأة «متزوجة»، حتى ولو كانت «زوج» مَلِك من الملوك.

٢- لقد نزلت هذه الأحكام خلال المرحلة الانتقالية حيث «مرحلية التشريع» التي كانت تقتضيها تحديات عصر التنزيل، ولها شواهد في كتاب الله:

فقد ترك الله ما كان متبعا من نكاح ما نكح الآباء، ومن الجمع بين الاختين في نكاح واحد، حتى نزلت الآيات بتحريمهما، وعفا الله عما سلف:

* «وَلَا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُم مِّنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ» – «وَأَن تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ»

ونزلت الآيات بتوسيع مصارف «ما ملكت الأيْمان» بـ «العتق» كفارة الذنوب، وكفارة القتل الخطأ، وكفارة اليمين.

وأعطت لـ «ملك اليمين» الحق في الحرية بموجب اتفاق مكتوب يدفع على أساسه لمالكه مبلغًا من المال، وهو ما يُعرف بـ «المكاتبة»:

* «وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً…»

وللموضوع بقية

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى