أولًا:
إن المتدبر لكتاب الله يعلم أن الله تعالى وصف آياته بأن:
١- جميعها “مُحْكَمَةٌ”:
* “كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ”
إن إحكام الإنسان لأي “شيء” يعني عدم ترك أي عيب فيه، وعندما يكون “الإحكام” من الله فهذا معناه استحالة أن يأتي إنسان بمثل شيء خلقه الله، ولذلك قال تعالى بعدها:
“ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ”
٢- جميعها “متشابهة”:
* “اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ”
وإن من مقتضيات “إحكام” آيات الكتاب و”تفصيلها”، أن تتشابه في نسق بنائها، وفي فصاحة معاني كلماتها، وفي بلاغة أساليبها البيانية، وهذا يتكرر “مَثَانِيَ” في الكتاب كله.
إن “التثنية” تبدأ بعد “الواحد”، ثم تستمر إلى ما لا نهاية، فتدبر:
* “قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً”
فليس معنى “بِمِثْلِهِ مَدَداً” أن المثلية “التثنية” لمرة واحدة، وإنما هي إلى ما لا نهاية، كما بيّن الله ذلك في سياق آخر حيث يقول تعالى:
* “وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ”
إن كل كلمة من “كلام الله” المقروء في الكتاب، تحتاج إلى تحصيل العلوم التي تكشف عن فعاليتها مع “مقابلها الكوني”، وعن الحكمة من أن يحمل السياق القرآني “الإحكام” و”التشابه” في نفس الوقت.
وهنا تأتي مجالات العلوم المتعددة للكشف عن علاقة التناغم بين “المحكم” و”المتشابه”، وإثبات أن هذا القرآن هو حقًا “الآية العقلية” الدالة على صدق “نبوة” رسول الله محمد.
٣- بعضه “محكم”، وبعضه “متشابه”:
“هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ”
إن كلمة “الأم” في لسان العرب تعني “الأصل” الذي منه يكون الشيء، فأصل آيات الكتاب “الإحكام”، من حيث خصائص “الحفظ الإلهي”، لذلك كان “القرآن المحكم” أُمًّا لـ “القرآن المتشابه”.
ومع إحكام آيات الكتاب إلا أن فهمها، واستنباط أحكامها، يختلف من شخص إلى آخر، حسب معرفته بـ “اللغة العربية” التي خاطب الله بها أهل “اللسان العربي”.
ثانيًا:
واليوم يأتي الذين يجهلون علوم اللغة العربية وأساليبها البيانية، ويقفون عند ما يجهلون، ويثيرون حوله الفتنة والشبهات:
“فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ”
و”الزيغ” و”الإلحاد” هو “الميل عن الحق”، وجاء إطلاق لفظ “المتشابه” على ما لا يعلمونه من آيات الكتاب، وذلك من باب إطلاق اسم “السبب” على “المسبب”، أي بسبب جهلهم.
إنهم يريدون تَأويل الآيات “المتشابهات” حسب معارفهم وثقافاتهم، بدعوى أن “عقولهم” ستهديهم إلى فهمها، فينتقون من مراجع “اللغة العربية” معاني الكلمات التي توافق هواهم، بمعزل عن سياق الآيات “المحكم المتشابه”!!
إنهم لا يعلمون:
أن “كلام الله” الذي نزل بـ “اللغة” التي كان ينطق بها “لسان العرب”، والموجود في كتاب بين أيدي المسلمين اليوم، يستحيل أن يفهمه إنس ولا جان بمعزل عن “مقابله الكوني” الموجود خارج القرآن، والذي يحمل مُسمّيات “كلام الله”.
مثال:
لقد حرّم الله لحم “الخنزير”، ولم يضع للمسلمين صورة هذا “الخنزير” في المصحف، فمن أي مصدر معرفي يعرف المسلمون “مُسمّي” كلمة “خنزير”، إذا جاء لهم “الملحدون” اليوم وقالوا إن “الحمار” هو “الخنزير”؟!
ولذلك أقول لكم:
عندما تعرفون المصدر المعرفي الذي تعلّمتم منه مُسمّيات “كلام الله”، وبعد أن تثبتوا للتابعين لكم “بغير علم” حجية هذا المصدر الذي لا تنفصل عن “حجية” القرآن، اخرجوا وقولوا لهم:
“معذرة إلى ربنا إنا كنا جاهلين”
فأي “عقل” هذا الذي يهدي المسلمين إلى فهم القرآن، وهم جميعًا يعيشون داخل منظومة “الإسلام الوراثي” لم يتربوا على فهم القرآن إلا من خلال مذاهبهم العقدية التي أشركت بالله ما لم ينزل به سلطانًا، وجعلت الآيات الموافقة لمذاهبهم “محكمة”، والآيات المخالفة لها “متشابهة”؟!
إي “عقل” هذا الذي يؤخذ منه الفهم الواعي لـ “كتاب الله”، وهو مجرد “تابع” “مقلد” “ناقل” يقطف من كل “متبوع” ما يوافق هواه، ولا يحمل “بصمته الإبداعية” التي تُخرج المسلمين من ظلمات “التفرق في الدين” إلى نور “إسلام الرسول”؟!
ثالثًا:
إن تحصيل العلوم والمعارف، بمجالاتها المتعددة، وفي مقدمتها علوم اللغة العربية، فَرْضُ “عين” على كل من آمن بالقرآن باعتباره “كلام الله” الذي حمل “الآية العقلية” الدالة على صدق “نبوة” رسول الله محمد.
إن “العلم” هو مفتاح الدخول إلى فهم القرآن “المحكم المتشابه”، لذلك سمي الله “القرآن” “علمًا”، فقال تعالى:
* “وَلَئِنْ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنْ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنْ الظَّالِمِينَ”
وبيّن الله أن الأمثال التي يضربها في القرآن “لا يعقلها” إلا “العالمون”، فقال تعالى:
* “وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ”
وفي سياق بيان طبيعة هذا القرآن، وأنه يوجد في صدور “العلماء” الذين يقفون على فعاليات آياته، يقول الله تعالى:
* “بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ”
و”أولوا العلم” الذين يشهدون شهادة علمية بـ “الوحدانية”:
* “شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَالْمَلائِكَةُ وَأُوْلُوا الْعِلْمِ قَائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ”
و”الراسخون في العلم” هم الذين يستطيعون مواجهة التحديات التي يقذفها “الملحدون” في طريق “العلماء”:
* “وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا”
ولذلك قال تعالى بعدها:
* “وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُوا الأَلْبَابِ”
لأنهم هم الذين يعلمون أن تأويل الآيات لا يكون إلا بـ “الأدوات” التي حملها “كلام الله” المقروء والمشاهد.
وهذا معنى “وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ” أي وما يعلم تأويل هذه الآيات إلا الذين يحملون أدوات “العلم” التي نص عليها الله في كتابه.
رابعًا:
ولذلك كان من شروط “الحوار العلمي”، وحتى لا يتحول إلى “جدل عقيم”، أن تقول للآخرين:
* “هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا”؟!
فإذا لم يأتوا بـ “العلم” فالله يقول لهم:
* “إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ”
فيقول الله تعالى عن ضلالهم:
* “ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنْ الْعِلْمِ – إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ – وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ اهْتَدَى”
وكان من الطبيعي أن ينص الله تعالى على هذه الحقيقة:
* “هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ”
ولذلك قال بعدها:
* “إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُوا الأَلْبَابِ”
فهل ورث المسلمون عن آبائهم “العلم” الذي يجعلهم يفهمون القرآن، ويستنبطون أحكامه، بعيدًا عن “الإسلام الوراثي”، وعن أئمة الفرقة التي ولدوا فيها، وعن أمهات كتبهم؟!
لم يحدث!!
وإنما الذي حدث أنهم جعلوا “إسلامهم الوراثي” حاكمًا على “دين الإسلام”، فهجروا “القرآن”، وانقسموا فريقين:
الأول:
يتبع “إسلام الفرقة” التي ولد فيها، ويدافع عنه، ويقاتل في سبيله.
الثاني:
يكفر بـ “إسلام الفرقة” التي ولد فيها، ويهاجمه، ويقاتل في سبيل حرق تراثه الديني.
وقد أعطوا جميعهم ظهورهم لتحذير الله لهم أن يقعوا فيما وقع فيها أتباع الكتب السابقة، حيث قال تعالى:
* مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ – ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا – كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً – بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ – وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ”
لقد اعتبر الله الذين أمرهم باتباع كتابه، ولم يقوموا بتفعيله في حياتهم، ونبذوه وراء ظهورهم، كـ “الحمار” الذي حمّله صاحبه مئات الكتب، و”الحمار” لا يعلم شيئا عن الموضوعات القيمة التي يحملها على ظهره.
يستحيل أن تقف على أن هذا القرآن حق، وأنه حمل “الآية العقلية” الدالة على صدق رسول الله محمد، إلا بـ “العلم”:
“وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ”
محمد السعيد مشتهري