لقد بيّنت في المنشور السابق “المسألة الأولى” وهي:
“حصر ورود كلمة الرجال ومشتقاتها في السياق القرآني”
والمتدبر لما جاء في هذه المسألة لن يحتاج إلى مزيد بيان لإثبات تهافت ما ذهب إليه “د. محمد شحرور” من أن:
“الرجال” هم “الذكور والإناث” من الطبقة العليا.
و”النساء” هم “الذكور والإناث” من الطبقة الدنيا.
ولكن هناك مسائل “بيانية” تتعلق بسياق الآيات التي وردت فيها كلمة “الرجال”، واختيار المعنى المناسب للكلمة من مراجع اللغة.
أولًا:
نقول “نَسَأَ” الشيءَ “يَنْسَؤُه”، أي أَخَّره، والاسم “النَّسِيئةُ” و”النَّسِيءُ”.
١- إن كلمة “النَّسِيءُ”، بفتح النون، تعني “ما يأتي متأخرًا”.
أما كلمة “النِساء”، بكسر النون، فلا علاقة لها مطلقا بـ “ما يأتي متأخرًا”، لأنها جمع “امرأة”، والمرأة لا تجمع إلا على هذا النحو.
فإذا ذهبنا إلى كتاب الله نجد أن كلمة “نِساء” لم ترد مطلقا إلا بـ “كسر النون”، ولم يحمل سياق الآيات التي وردت فيها أي معنى يشير إلى “التأخير”.
٢- وإذا ذهبنا إلى “المسألة الأولى”، التي حملت حصرًا لجميع الآيات التي وردت فيها كلمة “الرجال”، نجد أن جميعها يشير إلى أن “الرجال” هم “جنس الذكور” المقابل لـ “النساء” “جنس الإناث”.
٣- وفي “لسان العرب” يقولون:
“الْرَجُل” الذكر من نوع الإنسان، خلاف “المرأة”.
و”تَرَجَّلَ” النهار أي “قوي” ضياؤه.
وفَرَس “رَجيل” أي “قوي” على المشي.
و”ارْتَجَل”َ الكلام أي تكلم “بقوة” دون إعداد مسبق.
ونفهم من ذلك أن صفة “القوة” من الصفات التي فضل الله بها “الرجال” عن “النساء”.
ثانيًا:
يبدأ سياق الآيات التي وردت فيها جملة “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ” من أول سورة النساء، حيث يقول الله تعالى “الآية ١”:
* “يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً..”
١- لقد جاء “رِجَالاً وَنِسَاءً” نكرة، ولم تأت مُعرّفة “الرجال والنساء” لبيان أنهما جنسان لم يخلقهما الله مستقلين، وإنما ثمرة “زواج” آدم وزوجه، عليهما السلام.
وهل منذ أن خلق الله الوجود البشري، عرفت الأمم غير “آية الزواج”، وما ينتج عنها من ذرية ذكور وإناث، يُصبحون بعد ذلك “رِجَالاً وَنِسَاءً”؟!
ثالثًا:
١- قول الله تعالى “الآية ٣”:
* “وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً..”
# عندما تأتي كلمة “النِّسَاءِ”، ثم بعدها “فَوَاحِدَةً”، فهل هي ذكر أم أنثى؟!
٢- قول الله تعالى “الآية ٤”:
* “وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً..”
# فهذه الـ “نون” هل هي لـ “الذكور” أم لـ “الإناث”؟!
٣- قول الله تعالى “الآية ٧، ١١”:
* “لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالأَقْرَبُونَ..”
* “يُوصِيكُمْ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ…”
# وهل في أحكام “المواريث” يكون “الرجال” بمعنى “الذكور والإناث” من الطبقة العليا، وتكون “النساء” بمعنى “الذكور والإناث” ولكن من الطبقة الدنيا؟!
رابعًا:
١- قول الله تعالى “الآية ١٥-١٦”:
* “وَاللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ.. فَأَمْسِكُوهُنَّ.. يَتَوَفَّاهُنَّ..”
# هل يمكن أن تحمل كلمة “النساء”، “اللاَّتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ” معنى “الذكورة”، والله يقول بعدها عن فاحشة “الذكور”:
* “وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا..”؟!
٢- قول الله تعالى “الآية ١٩”:
* “..أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ.. آتَيْتُمُوهُنَّ.. يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ..”
# هل يمكن أن تحمل كلمة “النساء” هنا، العائد إليهن “نون التأنيث”، معنى “الذكورة”؟!
٣- قول الله تعالى “الآية ٢٢”:
* “وَلا تَنكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنْ النِّسَاءِ.. كَانَ فَاحِشَةً..”
# فهل المقصود بـ “الفاحشة” نكاح “الذكور”؟!
٤- قول الله تعالى “الآية ٢٣-٢٤”:
* “حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ.. وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمْ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمْ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ.. وَالْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ..”
# وهل في سياق المحرمات من النساء يمكن أن نفهم “أُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ” أي “الذكور”؟!
إذن فأين نذهب بـ “اللاَّتِي” التي تكررت مرتين، وبـ “نون التأنيث” بعدها “بِهِنَّ”؟!
# ثم هل “الْمُحْصَنَاتُ مِنْ النِّسَاءِ” من جنس الذكور أم الإناث؟!
خامسًا:
١- قول الله تعالى “الآية ٣٢”:
* “وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ..”
لقد سبق هذه الآية النهي عن أكل أموال الناس بالباطل، وعن قتل النفس..، فجاء بما يُطهّر النفس من الصفات الذميمة.
# لقد نهاهم الله عن تمنى الحصول على ما عند الغير من نعم، وأن عليهم أن يسعوا من أجل اكتساب هذه النعم بالعمل، ثم يسألوا الله أن يعطيهم ما يتمنونه.
ثم جاء وبَيّن ما أجمله بقوله تعالى بعدها:
* “لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ..”
# أي أن الله يخاطب بهذا “التفضيل” الجنسين “الذكور والإناث” ولكن بعد أن وصلوا إلى “سن التكليف” وأصبح الذكور “رِجَالاً” والإناث “نِسَاءً”.
وقد بيّنت الآية التالية هذا التفضيل:
٢- قول الله تعالى “الآية ٣٤”:
* “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ..”
# لقد جاء اختيار الجملة الإسمية بصيغة المبالغة “قَوَّامُونَ” لبيان عمق ورسوخ صفة “القوامة” في “الرجال”.
ففرق بين “قائم” يقوم بعمل لمرة واحدة، و”قوّام” الذي يقوم بهذا العمل بصفة مستمرة، وهذا شأن «الرجال»، بمفهوم «الرجولة»،
وبذلك تصبح الآية هي الأصل التشريعي الحاكم للعلاقة بين الرجال والنساء بوجه عام، مطلق الرجال ومطلق النساء، وليست خاصة بالرجل وزوجه فقط.
(أ) إن “القيم” هو الذي يقوم بأمر غيره، وقوامة الرجال على النساء ليس معناها السيطرة والتحكم فيهن، وإنما السعي في مصالحهن.
وهذا ما فعله موسى، عليه السلام، عندما سقى للمرأتين، وكان سبب ذلك قولهما “وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ” – “فَسَقَى لَهُمَا”.
و”الباء” في “بِمَا فَضَّلَ”، وفي “بِمَا أَنفَقُوا” باء “السببية”، جاءت لبيان علة أن خص الله الرجال بـ “القوامة”، وذلك لسببين:
* “بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ”
# وهذه تحتاج أن ينظر “الرجال” إلى أحوال “النساء”، وأن تنظر “النساء” إلى أحوال “الرجال”، ليقفوا على أوجه “التفضيل” التي خلقهم الله بها، وهذا ما أفادته صيغة الماضي في “فَضَّلَ اللَّهُ” التي تبين أن هذا التفضيل أمر مقرر من لدن آدم وزوجه عليهما السلام.
ومن أوجه التفضيل حسب ما ورد في القرآن:
قوله تعالى في بيان أحكام الميراث:
* “لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ”
وقوله تعالى في سياق “الشهادة”:
* “فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ”
وقوله تعالى في إباحة “تعدد الأزواج”:
* “فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلاثَ وَرُبَاعَ”
وقوله تعالى في وجوب أن يدفع “الرجل” مهر “زوجه”:
* “فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً”
(ب) ومن بلاغة النص، وبديع البيان، أن الله تعالى لم يقل “بما فضل الله عليهن” ليشمل التفضيل الرجال دون النساء، وإما ذكر “البعض” من باب “الإبهام” الذي لا يقتضي “عموم الضمير”.
فقد تأتي ظروف “صحية أو غيرها” تمنع الرجل من أن يكون “قيّمًا” على من يعول، فتأخذ “زوجه” أو غيرها مكانه.
# إن “قوامة” الرجل لا تعني إلغاء شخصية المرأة، سواء في بيتها أو في المجتمع، ولا السيطرة على حقوقها “المدنية”، وإنما هي مسؤولية ألقاها الله على عاتق الرجل لرعاية من يعولهم وحمياتهم.
(ج) الوقوف على “الحكمة” من أن يكون من التفضيل:
* “وَبِمَا أَنفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ..”
وجاء هنا أيضًا بصيغة الماضي “أَنفَقُوا”، لبيان أن “القوامة” في “الإنفاق” أمر مقرر من لدن آدم وزوجه، عليهما السلام.
وقال تعالى: “مِنْ أَمْوَالِهِمْ”، أي من أموال “الرجال” وليس من أموال “النساء” ولو كن أغنياء.
(د) وفي نفس سياق “الآية ٣٤”، وحول نفس الموضوع، تبدأ الجملة بـ “الفاء الاستئنافية” فيقول تعالى:
* “فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ..”
وهذا معناه أن الكلام ما زال مستأنفًا، وأن السياق يتحدث عن “النساء” الوارد ذكرهم في جملة:
* “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ”
وأن كلمة “الرجال” جاءت في القرآن بمعنى صنف “الذكور” المعروف في الوجود البشري، وأن كلمة “النساء” جاءت في القرآن بمعنى صنف “الإناث” المعروف في الوجود البشري.
# ثم بعد ذلك يتحدث عن “النساء الطالحات”، ويستخدم في الحالتين “وَاللاَّتِي”، فيقول تعالى:
* “وَاللاَّتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ…”
أي من “النساء” اللاتي ورد ذكرهن في “الآية ٣٤”.
٣- قول الله تعالى “الآية ٣٥”:
* “وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلاحاً يُوَفِّقْ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيماً خَبِيراً”
# إن هذه الآية معطوفة على ما قبلها، أي أننا ما زلنا في سياق الموضوع.
إذن فقوله تعالى “مِنْ أَهْلِهِ”، و”مِنْ أَهْلِهَا”، يعني من أهل “الرجل”، ومن أهل “المرأة”.
فكيف يكون معنى: “الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ..”
أي “الذكور والإناث” من الطبقة العليا، “قوّامون” على “الذكور والإناث” من الطبقة الدنيا؟!
أَفَلا تَعْقِلُونَ؟!
الحقيقة أنا لم أجد لـ “د. شحرور” أي مخرج يرفع عنه هذا “الهوس الديني”.
ليس في هذا الموضوع فقط، وإنما في كل ما يكتب، وما يبثه “في الهواء”.
لأن القاعدة المنهجية تقول:
إن كل ما قام على باطل فهو باطل.
والسؤال:
لماذا يريدون إبعاد المسلمين عن الفهم الواعي لكتاب الله، وعن العمل بأحكامه؟!
ولماذا استجاب ويستجيب كثير من المسلمين ويُعجبون بهذه القراءات الإلحادية؟!
والجواب:
لأن الله تعالى يقول في سياق الحديث عن صفات “المنافقين”:
“أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا”
ويقول تعالى في سياق تحذير المؤمنين من “أهل الشهوات”:
“وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ – وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ – أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً”
وما أكثر الذين “مالوا” مع هذه القراءات عن صراط الله المستقيم!!
والغريب أن منهم من يدعو ربه في صلاته ويقول:
“اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ”!!
إنها مأساة العشوائية، والتقليد الأعمى، والاتباع بغير علم، ويبقى السؤال قائمًا:
من هو صاحب بدعة:
“النساء تعني الذكور والإناث من الطبقة الدنيا”:
هل المهندس “شحرور”، أم الفنان “الهويريني” صاحب الفيديو المرفق؟!
محمد السعيد مشتهري