لقد بيّن الله تعالى حُكم “الأيْمَان” وكفارتها، وأن “الإيلاء” يَمينٌ وليس “طلاقًا”، وأن “الطلاق” له إجراءات تبدأ بـ “العزم”، ولا يقع إلا في نهاية “العدة” أي في نهاية الـ “ثَلاثَةِ قُرُوء”.
ثم بيّن الله أن من حق “الزوج” رد “زوجه” قبل انقضاء “العدة”، وكأن شيئًا لم يحدث، لأنه صاحب القرار وسيده، ولذلك أضيفت إليه صفة “البعولة”، فقال تعالى:
* “وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاحاً”
وقوله تعالى “فِي ذَلِكَ” أي في خلال “فترة العدة”.
والسؤال:
كم عدد مرات “العدة”، التي وردت في قوله تعالى “الآية ٢٢٨” من سورة البقرة:
* “وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ”؟!
أولًا:
يقول الله تعالى “الآية ٢٢٩”:
* “الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ”
نفهم من ذلك أن هناك “إمساكًا” بعد الـ “مَرَّتَين”، أي أن الطلاق في الـ “مَرَّتَين” طلاقٌ رجعيٌ، يعقبه “إمساك” أخير، و”تسريح” أخير، وهذا معناه أن هناك طلقة “ثالثة”، أو “أكثر”، لا نعلم عنها شيئًا.
ثم جاء البيان في قوله تعالى بعدها “الآية ٢٣٠”:
* “فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ”
ثانيًا:
إن “الفاء”، في “فَإِنْ طَلَّقَهَا”، تسمى بـ “فاء التعقيب”، تعقيب على ما سبقها، أي على “الطَّلاقُ مَرَّتَانِ..”.
والمعنى: إن أوقع الزوج التطليقتين، وراجع امرأته، ثم طلقها “الطلقة الثالثة”، فلا تحل له إلا إذا تزوجت غيره زواجًا صحيحًا مكتملًا الأركان، ثم طلقها زوجها الثاني:
* “فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ”
فـ “طَلَّقَهَا” الأولى في:
“فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا تَحِلُّ لَهُ..”
تخص الزوج الأول.
و”طَلَّقَهَا” الثانية في:
“فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا..”
تخص الزوج الثاني.
وجملة “فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا”:
تخص الزوج الأول والمرأة.
ثم تدبر قوله تعالى بعدها:
* “فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا”
ولماذا استُخدم فعل “المراجعة”؟!
لأن “الزوجية” كانت حاصلة بينهما قبل ذلك، وقد تراجعا إلى ما كانا عليه من النكاح.
ثم تدبر قوله تعالى بعدها:
* “إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ”
ونلاحظ في سياق هذه الآيات تكرار وجوب الالتزام بإقامة “حدود الله” في بيت الزوجية، ولكن “بيان الله” لهذه الحدود لا يقف عليه إلا “العلماء”، فتدبر ماذا قال تعالى بعدها:
* “وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ”
إنه يستحيل أن يقف على “بيان الله” في القرآن إلا الذين يعلمون كيف يتدبرون القرآن، وما هي أدوات التدبر، وهذا ما أكد عليه السياق القرآني في أكثر من موضع، ومن ذلك قوله تعالى:
“وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ الْعَالِمُونَ”
وهذا لا يعني حصر فهم القرآن واستنباط أحكامه في طائفة تسمى بـ “علماء الدين”، فهذا الأمر مرفوض تماما.
وإنما يعني أن المسلمين، عبر قرون مضت، لم يحملوا “أمانة العلم” التي فرضها الله عليهم جميعًا، كـ “خير أمة” أخرجت للناس، وعليهم أن يحملوا هذه الأمانة من جديد، حتى لا يعطوا فرصة لـ “الجُهّال” أن يكونوا هم منابع الفهم لأحكام القرآن.
ثالثًا:
وكما أن الله أعطى الرجل الحق في الانفصال عن زوجه، فقال تعالى:
“الطَّلاقُ مَرَّتَانِ فَإمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ”
أعطى المرأة أيضا هذا الحق، فقال تعالى بعدها:
* “وَلا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ”
فتدبروا لتقفوا على مأساة بيوت المسلمين:
“إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ”
فعندما يطلب الرجل “أو المرأة” الانفصال، وفك عرى الزوجية، يجب ألا يكون السبب مشاكل دنيوية، وإنما الخوف من عدم الالتزام بحدود الله إن استمرت هذه “الزوجية”.
* “فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ”
إن الضمير في “خِفْتُمْ” للمؤسسة المعنية بشؤون الطلاق، وقوله تعالى: “فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ” هو ما يُسمى اليوم بـ “الخلع”.
وأهمية وجود مؤسسة معنية بشؤون الطلاق وحقوق الزوجين، أنها على علم، من خلال ملف الزوجين، بمن الظالم ومن المظلوم.
فمثلا:
يحرم على الزوج أن يأخذ فدية من امرأته، “فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ” وهو يعلم أن السبب في طلبها الانفصال “الخلع” هو سوء عشرته، فتأتي هذه المؤسسة وتعطي لكل صاحب حق حقه.
ونلاحظ هذا الترتيب:
أن السياق ذكر حق الرجل في الطلقتين الرجعيتين.
ثم أتبعه بحق المرأة في “الخلع”.
ثم ختم بحكم “الطلقة الثالثة”
حيث لا رجعة ولا خلع.
إن كل من الزوجين يستطيع أن يطلب الانفصال، حتى ولو كان ذلك بالتنازل عن بعض الحقوق، ولكن القضية ليست في “الأحكام” وإنما في “تقوى القلوب”.
وقد لا يعلم الكثير أن قوله تعالى:
* “وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً . وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ …”
جاء في سياق بيان أحكام الطلاق، “الآية ٢” من سورة الطلاق.
فإذا أضفنا إلى إقامة البيوت على “تقوى الله”، وعلى الالتزام بـ “حدود الله”، كما ختم الله سياق آيات سورة البقرة يقوله تعالى:
* “تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوهَا – وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الظَّالِمُونَ”
فإن السؤال الذي سيفرض نفسه:
كم عدد الأسر المسلمة التي تتقي الله في نفسها، وفي أولادها، وتلتزم بـ “حدود الله” في حياتها، قبل أن يذهب الرجل، أو تذهب المرأة، إلى “دار الإفتاء”، للسؤال عن شيء يتعلق بالطلاق؟!
“تمت”.
محمد السعيد مشتهري