مسألة انشغال المسلمين بـ “أحكام الشريعة”، سواء كانوا “سلفيين” أو “قرآنيين”، أو “تنويريّين”، وإهمالهم القاعدة التي بدونها تسقط عنهم هذه الأحكام، قاعدة “الوحدانية”، من المسائل التي تشغل بالي ليل نهار.
لقد ورث المسلمون “الوحدانية”، وهم لا يعلمون عن مفهومها ولا عن مقتضياتها شيئًا، وإلا ما تفرقوا في الدين إلى فرق ومذاهب عقدية يُكفر بعضها بعضًا.
وورث الأبناء عن آبائهم “الوحدانية” عبارة عن جملة كلامية “لا إله إلا الله” لا يعلمون عنها غير أن لهذا الكون إلهًا، أما ما حملته هذه الجملة من أسلوب بلاغي يُحقق “الإثبات والنفي” في نفس الوقت، فلا يعلمون عن ذلك شيئًا.
أولًا:
إن الشق الأول من الجملة، “لا إله”، ينفي أن يكون هناك في هذا الوجود “إلهٌ” يستحق العبادة، أي ينفي جميع أنواع المعبودات.
ثم يأتي الشق الثاني “إلا الله” ليتمم الجملة ويثبت “الإلهية” لإله واحد أحد لا شريك له.
# لذلك لا يكفي أن يؤمن الناس بوجود “إله” لهذا الكون مستحق للعبادة، دون أن ينفوا اتباعهم لأي “إله” آخر غير “الله”، فتدبر كيف خاطب الله المشركين:
* “قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً – قُلْ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ – وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ”
ثم تدبر كيف جمع السياق بين إثبات مقام الألوهيّة لله، وبين تنزيه الله عن الشريك والمثيل، فقال بعدها:
* “أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى – قُلْ لا أَشْهَدُ – قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ – وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ”
ثانيًا:
إن “دلائل الوحدانية”، في الآفاق والأنفس، تشهد بذاتها على أنه “لا إله إلا الله”، فهل تربى الناس في طفولتهم على أن أصول الإيمان يجب أن تقوم، ليس على الاعتراف بوجود إله، وإنما على أنه إله “واحد لا شريك له”؟!
لقد كانت مهمة جميع الرسل مع أقوامهم تبدأ بقول الرسول:
“يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ”
فماذا كان يشعر الرسل بعد إقامة الحجج على أقوامهم ويجدونهم مصرين على الجحود والعناد والإنكار، وهم يستمتعون بحياتهم الدنيا باعتبار أنها نهاية المطاف؟!
تعالوا نرى مشهدًا من قصة موسى وهارون، عليهما السلام، مع فرعون وملئه، حيث يقول الله تعالى:
* “وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا”
* “رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ”
* “رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ”
* “فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ”
* “قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ”
علينا أن نتدبر جيدا ماذا قال موسى، “وقد كان معه هارون”، في دعائهما، الذي استجاب الله له، ونسأل أنفسنا هل قال الله لموسى:
١- إنك غليظ القلب، كيف تدعو عليهم بمثل هذا الدعاء؟!
٢- هل أعطى الله فرعون هذه النعم لأنه يريد “إضلالهم”، لذلك قلت يا موسى في دعائك “لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ” فنسبت إلى الله “الإضلال”؟!
٣- ثم ما شأنك أنت يا موسى بقلوب الناس لتقول: “وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ”، ثم ما شأنك بإيمانهم حتى تقول “فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ”؟! أجعلت من نفسك شريكًا مع الله؟!
٤- وكيف تقول يا موسى:
“فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ”
ألم تعلم أن “العذاب” إذا أتى:
* “لا يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً”؟!
* “فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا – سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ – وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ”
فكيف تجعل يا موسى إيمانهم متوقفًا على رؤيتهم “العذاب”؟!
ثالثًا:
واللافت للنظر، أنه مع كل هذه الشبهات استجاب الله لدعائهما:
* “قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا”؟!
ولماذا لم يقل الله تعالى “قَدْ أَجَبْتُ دَعْوَتُكُمَا”؟!
لأن استخدام أسلوب البناء للمفعول “أُجِيبَتْ” أكثر بيانًا لفعالية أسماء الله الحسنى، ووقعها في النفس، من جهة الدلالة على عظمة الفاعل.
وهنا تأتي أهمية “اللغة العربية” في فهم مثل هذه السياقات التي يستغلها “الملحدون” لإثارة الشبهات حول “أصول الإيمان”، ثم يقع في “فخها” الذين لا يعلمون أساليب القرآن البلاغية.
ومجمل القول في الرد على مثل هذه الشبهات:
١- أن الله تعالي شاء أن يخلق “أسباب” الهداية والضلال، فالذي يهتدي إنما يهتدي بمشيئة الله، والذي يضل إنما يضل بمشيئة الله، وعلى هذا الأساس خلق الوجود البشري مختارًا، فتدبر:
“وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا”
فالله تعالى هو الذي ألهم النفس الفجور والتقوى، وهو الذي خلق الأسباب الموصلة إليهما، وترك للإنسان حرية الاختيار:
“قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا”
٢- إن “اللام” في قوله “لـ ِيُضِلُّواْ” تسمى “لام العاقبة”، كقوله تعالى:
“فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ (لِـ يَكُونَ) لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً”
أي في المستقبل.
لقد جاء دعاء موسى، عليه السلام، على فرعون وملئه، بعد يأسه من إيمانهم، وبعد أن علم من سيرتهم أنهم قد اختاروا “أسباب الضلال”، والتي عاقبتها الغي والضلال والإضلال والصد عن سبيل الله.
تمامًا كما دعا نوح، عليه السلام، على قومه، فقال تعالى:
“وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ مِنْ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً . إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلا يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً”
٣- وعندما يصبح “الإضلال” سنة دعوية وظاهرة اجتماعية، فهذا يعني أنه قد:
“ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ – بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ – لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا – لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”
وهنا على وحدات الإنقاذ “البري والبحري” أن تتحرك فورا لإنقاذ الضالين من هلاك جهنم “لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ”.
فهل تحرك أحد لإنقاذ المسلمين من هلاك “التفرق في الدين”، وأعادهم إلى “إسلام الرسول”؟!
٤- فهل يُعقل أن يدعو موسى ربه بأن يطمس على أموالهم من أجل “ألا يؤمنوا”، وهو يعلم أنه مرسل من الله لدعوة الناس إلى “الإيمان”؟!
رابعًا:
بعد أن قال الله:
* “قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا”
قال تعالى بعدها:
* “فَاسْتَقِيمَا – وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ – لا يَعْلَمُونَ”
وهذا هو الدليل على أن “هارون” كان مع “موسى” وقت الدعاء وأنه كان يدعو معه.
وليس معنى إحساس العبد أن الله معه، يستجيب لدعائه، أن يُقصّر في التزامه بما فرضه الله عليه، فجاء لفظ “فَاسْتَقِيمَا” في مكانه التربوي البليغ، ليكون رسالة إلى كل من آمن بالله ورسوله.
إن الإيمان بـ “استجابة الله” لدعاء عباده الصالحين أصلٌ من أصول الإيمان، واجب الاتباع، لأنه يتعلق بالإيمان بفعالية أسماء الله الحسنى.
وليس شرطًا أن يستجيب الله للدعاء في الحال، بدعوى أن الله قال “ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ”، لأننا يجب أن نفرق بين “استجابة الدعاء” وتوقيت “وصول” هذه الاستجابة في الوقت المقدر لها، فتدبر:
* “وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً”
* “وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ”
ولذلك قال تعالى لموسى وهارون، عليهما السلام:
“وَلا تَتَّبِعَانِ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ”
والخلاصة:
# لقد رجع موسى من ميقات ربه فوجد قومه “أشركوا بالله”:
“وَأَلْقَى الأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ”
وهذه الألواح التي ألقاها موسى كانت تحتوي على:
“وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ”
لقد كانت “الوحدانية” هي الحاكمة على قلبه، وليست أحكام الشريعة.
# ولقد دعا موسى على فرعون وملئه لأنهم “أشركوا بالله” ما لم ينزل به سلطانًا:
“رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوْا الْعَذَابَ الأَلِيمَ”
فالله تعالى لا يعطي الناس الدنيا وزينتها ليضلوا الناس عن سبيله، وإنما هم الذين اختاروا الضلال والشرك بالله، فاستحقوا العذاب.
# ولقد حذر الله الذين آمنوا في عصر الرسالة من “الشرك” إن هم تفرقوا في الدين، فأعطوا ظهورهم لتحذير الله، وظلوا على الفُرقة والمذهبية إلى يومنا هذا.
والسؤال:
فماذا بقي للمسلمين وأبنائهم من ميراث “النبوة”؟!
محمد السعيد مشتهري