لقد ذكرت في منشور أمس، استكمالا لموضوع “لعنة التفرق في الدين”، أن من أخطر المصائب الفكرية على ملة “الوحدانية”، أن تصبح القراءات القرآنية المعاصرة والتنويرية، قراءات “مذهبية” تابعة لفرقة من الفرق الإسلامية.
والحقيقة أن نجوم القراءات المعاصرة والتنويرية من أهل فرقة “أهل السنة والجماعة”، لا يجدون حرجًا عندما يُصرّحون بهويتهم “السنية”، كما صرّح بذلك “البحيري”، وبيّناه في منشور الأمس.
أولًا:
إن مشكلة “البحيري” أنه عضو في “منظمة الإلحاد التنويري” التي تتكون من هذه التوجهات الدينية:
١- أصحاب بدعة “القرآن وكفى”، الذين يكفرون باللغة العربية، وبجميع أحكام القرآن، وفي مقدمتها أحكام وهيئة الصلاة، بدعوى أن القرآن تبيانٌ لكل شيء، وما يفعله المسلمون في صلاتهم ما هو إلا “حركات وثنية”!!
٢- أصحاب بدعة “القراءات المعاصرة”، الذين وضعوا أولًا “مصطلحات” يقيمون على أساسها فهمهم “المعوج” للقرآن، وأخطر ما فعلوه التفريق بين الكتاب والقرآن، فأسقطوا بذلك معظم أحكام القرآن، بفهمهم المعوج للغة وللسياق القرآني.
٣- أصحاب بدعة “القراءات التنويرية”، وهؤلاء يتميّزون ببضاعتهم “المغشوشة”، وبـ “السرقات الفكرية”، يجمعون مادتهم العلمية من هنا وهناك، ويستقطعون الآيات من سياقاتها، ولذلك لا تجد لهم لونًا ولا رائحة!!
وإن أقصى ما يتمنّاه هؤلاء، أن يقوم “الأزهر” بتنقية أمهات كتب فرقتهم “أهل السنة”، وتطوير المناهج الدراسية وتنقيتها من فقه “أبي شجاع” و”رجم القرود” و”تفلية” شعر النبي من “القمل”.
# ولقد بيّنت في مئات المنشورات على هذه الصفحة مدى تهافت وسقوط هذه “التوجهات الإلحادية” من قواعدها.
ثانيًا:
وينتمي “البحيري” إلى “أصحاب بدعة القراءات التنويرية”، وهو من أخطر التوجهات التي غابت عنها مقتضيات “الوحدانية”.
والذي يجمع أصحاب هذه “القراءات التنويرية” بالناس ليس “العلم”، وإنما “هوى النفس”، والتقليد والاتباع “الأعمى”.
لذلك نجد أن “البحيري” يركز على “المسؤولية الفردية”، وأن كل إنسان مسؤول عن تدينه، وأن القرآن نزل للناس جميعًا.
وأن لكل واحد من الناس “عقله” الذي هو “إمامه” الحقيقي الذي يجب أن يتبعه، فلا إمام للمسلمين سوى “العقل”.
و”العقل” وحده هو الوسيط بين المسلمين وبين “القرآن”، ومهما “اختلفوا” في فهم “القرآن”، فإن الله لن يحاسبهم إلا على قدر “عقولهم”.
# القاصمة:
لو تدبر “البحيري” الآيات التي أمرت بتفعيل آليات التفكر والتعقل والتدبر والتفقه والنظر … إلى آخر آليات عمل القلب، ما ضيّع وقته في هذا “الهراء”، ولغير اتجاه بوصلته “السنية”.
ثالثًا:
لقد ذهب “البحيري” إلى الملحد “نتشه” يأخذ منه ما يدعم فهمه الإلحادي للقرآن، وأن الاختلاف بين المسلمين حول القرآن شيء “محمود” فليس هناك في هذا الوجود “حقائق” وإنما “تأويلات”.
وتتلخص محاور هذا “التوجه الإلحادي” في نقاط:
١- أن “الله” خلق الناس من أجل أن “يختلفوا”.
٢- أن “مسؤولية” الناس أمام الله “فردية”.
٣- أن “عقل” الإنسان هو إمامه الذي يهديه إلى صحة “تدينهم”.
٤- أن “تدين” الناس يقوم على التأويل لا على فهم “الحقيقة”.
٥- أن “القرآن” مطلق يستحيل فهم أي نص فيه بصورة مطلقة.
وهذه هي القواعد التي أسس عليها “البحيري” بوصلة برنامجه:
“نحو” “إعادة” “بناء” “الفكر” “الديني” “السني” “التنويري”.
# القاصمة:
إن الهدف الرئيس الذي تسعى “منظمة الإلحاد التنويري” إلى تحقيقه، هو تفكيك وهدم بنية “السياق القرآني”، حتى يسهل عليهم إسقاط أحكام القرآن.
وبذلك يسهل على كل ملحد العبث بأحكام القرآن “ملة وشريعة”، بدعوى أن الفهم “المطلق” للنص لا يعلمه إلا الله ورسوله!!
مثال “خبري”:
“مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ”
التحدي:
أن يشرح لنا أي «عقل» يختاره «البحيري» معنى هذه الآية وما هي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، دون الاستعانة بوسطاء من خارج القرآن.
فإذا استعان بوسطاء من خارج القرآن، فإن عليه أن يقول لنا:
هل ما جاء به من فهم لهذه الآية يعتبر من “المطلق” الذي لا يعلم معناه إلا الله؟!
أم من “النسبي” الذي لا نعلم نحن حقيقته؟!
إذن فما فائدة هذه الآية «الأعجمية»، ولماذا أنزلها الله وهو وحده الذي يعلم معناها؟!
وطبعا ليس الإشكال في هذه الآية فقط، فهناك آلاف الآيات مثلها.
مثال “تشريعي”:
“حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالأَزْلامِ..”
التحدي:
أن يشرح لنا أي «عقل» يختاره «البحيري» معنى هذه الآية، وما هي هذه “المحرمات”، دون الاستعانة بوسطاء من خارج القرآن.
فإذا استعان بوسطاء من خارج القرآن، فإن عليه أن يقول لنا:
هل ما جاء به من فهم لهذه الآية يعتبر من “المطلق” الذي لا يعلم معناه إلا الله؟!
أم من “النسبي” الذي لا نعلم نحن حقيقته؟!
وبالتالي سيكون السؤال:
كيف يُحرّم الله علينا شيئًا لا نعلم حقيقته على وجه اليقين “المطلق”؟!
رابعًا:
ويقول “البحيري”:
١- إن أهم شرط في “المطلق” أنه يستحيل فهم مقصد النص “فهمًا مطلقًا” يجعلنا على يقين بنسبة “١٠٠٪” أنه مراد الله تعالى.
٢- إن كل ما قام به “المفسرون” ما هي إلا اجتهادات “نسبية” يستحيل أن تصل إلى “المطلق” الذي لا يعلمه إلا الله ورسوله.
٣- إن الله تعالى لم يخبر أحدًا بالتفسير المطلق للقرآن، ويستحيل أن يقول أحد إن الله أخبره بمفهوم النص إلا “الرسول”، أي يستحيل أن نفهم القرآن إلا بأفهامنا النسبية المحدودة!!
٤- وعلى القدر الذي فسّره الرسول، وثبت بطريقة تجعلنا على يقين إن هذا هو التفسير الصحيح، يصبح هذا هو “الفهم المطلق”!!
٥- لكن أكثر من “٥٠٠٠” آية لم يفسرها النبي، لأنها كانت في ظروفها الواضحة بالنسبة للصحابة، وأراد النبي أن يترك الباب مفتوحا لمن بعده!!
# القاصمة:
يعني إذا كان “القائل” مجنون، يبقى “المستمع” عاقل.
فإذا كان الذي يعلم “المطلق” من البشر هو رسول الله وحده، والرسول لم يعلم من هذا “المطلق” غير “١٠٠٠ آية” تقريبًا.
التحدي:
إذن فليأتي لنا “البحيري” بتفسير هذه الآيات، هذا التفسير الذي يكفينا أن ننظر إليه ولو من باب التبرك بمراد الله من إنزال الـ “١٠٠٠ آية”!!
فماذا يفعل الناس بقرآن “مطلق”، لا يعلم حقيقة معنى آياته إلا الله، في الوقت الذي يأمر الله فيه الناس باتباع القرآن، وهم لا يعلمون المطلوب منهم على وجه اليقين، ثم يدخلهم “الجنة” أو “جهنم”؟!
إن هؤلاء الملحدين، يريدون من الحديث عن “المطلق والنسبي”، أن يفصلوا بين “الكلمة” و”مسمّاها”، ليصبح “كلام الله” بلا “مسمّيات”، وأحكام القرآن بلا “أحكام”!!
ويصبح “الخنزير” المطلق، المحرم أكل لحمه، “نسبيًا”، فيمكن أن يكون هو “الحمار”، ويمكن أن يكون هو “الهدهد”، فكل واحد حسب ما “عقله” يذهب به، فليس هناك حقيقة مطلقة، وإنما “تأويلات بشرية”!!
خامسًا:
ويقول “البحيري”:
١- كل ما جاءت به العقول من فهم للقرآن، بعد جيل الصحابة، فهو “فهم نسبي” لا تعلو فيه قيمة أحد على أحد، فكلهم سواء.
٢- لا أحد يقنعكم إن كلامه ممكن أن يتحول من “النسبي” إلى “المطلق”، ذلك أن “٩٩٪” من الآراء “بعد جيل الصحابة” آراء بشرية.
٣- إن الذي أجمع عليه “جيل الصحابة” يعتبر “دينًا” أي من “المطلق”!!
# القاصمة:
يبدو أن “السجن” يجعل “التنويريّين” يُغيّرون سريعًا معتقداتهم وأفكارهم بصورة لافتة للنظر!!
لقد جعل أئمة أهل السنة “الصحابة”، ومبدأ “عدالة الصحابة” خطًا أحمرًا يفصل بين الإسلام والكفر!!
وجعل أئمة الشيعة التبرؤ من الصحابة، ومبدأ “عصمة الأئمة” هو عين “الإسلام”.
التحدي:
أ- هل يعلم “البحيري” أن الحلقة الأولى من سلسلة حلقات “السند الروائي” هي حلقة “الصحابة”؟!
ب- هل يعلم “البحيري” كم عدد القتلى في المعركة التي اشتعلت بين زوج النبي “السيدة عائشة”، وابن عم النبي “على بن أبي طالب”، والتي سُمّيت بـ “موقعة الجمل”؟!
ج- هل يعلم “البحيري” أن “موقعة الجمل” قد أسقطت الحلقة الأولى من “السند الروائي” لدخول جميع من اشتركوا فيها دائرة “الجرح” التي تسقط “عدالتهم”، فلا يؤخذ منهم رواية واحدة؟!
فكيف تجعل أيها “الجاهل” إجماعهم “دينًا” “مطلقًا” واجب الاتباع؟!
سادسًا:
إن “البحيري”، وأمثاله من أعضاء “منظمة الإلحاد التنويري” ينطبق عليهم قول الله تعالى عن فرعون:
“فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ”
إن استخفاف أعضاء “منظمة الإلحاد التنويري” بعقول المسلمين أصبح ظاهرة يجب أن تواجه بكل قوة “علمية”، فقد وصل بهم الأمر إلى التشكيك في قوله تعالى مخاطبًا رسوله محمدًا:
* “فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ”
فقالوا: إن مفهوم هذه الآية لا يعلمه إلا الله، لأنها من “القرآن المطلق”، وعليه فإن الحقيقة المطلقة لمفهوم “الوحدانية” لا يعلمها البشر، لأنهم لا يتحركون إلا داخل دائرة “النسبية”!!
والخلاصة:
هذا الذي ذكرته عن “البحيري” مجرد “عينة” لبيان تهافت القواعد التي أقام عليها “الخريطة” و”البوصلة” “السنية” لقراءاته التنويرية للقرآن.
وقد سبق وأسقطت القواعد التي أقام عليها “شحرور” قراءاته المعاصرة للقرآن.
وعليكم أن تقفوا على الأسباب التي دعت “البحيري” يقتدي بأستاذه الملحد “نتشه”، الذي كتب:
“هكذا قال زرادشت عن مولد الإنسان الأعلى السوبرمان وموت الإله”.
إنهم لا يخططون لموت أحكام القرآن فقط، وإنما لموت الإله في قلوب المسلمين.
وكفى «البحيري» ما سبق بيانه في المنشورات السابقة.
محمد السعيد مشتهري