نحو إسلام الرسول

(1032) 6/2/2018 «يا صبر أيوب»

من الناس من يعتبر الابتلاءات دليلًا على “غضب الله”.

ومنهم من يعتبرونها دليلًا على “محبة الله”.

والضابط الحاكم لهذه المسألة، أن تنظر إلى حال “المُبتلى”:

فإن وجدته مطيعًا لله، ملتزمًا بأحكام شريعته، فاعلم أن ابتلاءه من باب النعمة ورفع الدرجات، وأن عليه بـ “الدعاء” و”الصبر”.

وإن وجدته عاصيًا لله، غير ملتزم بأحكام شريعته، فاعلم أن ابتلاءه من باب النقمة والترهيب، وأن عليه أن “يراجع” أحوال معيشته، وعلاقتها بتفعيل آيات الذكر الحكيم، لقوله تعالى:

* “وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى – قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً”

ثم تدبر جيدًا:

* “قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنسَى”

أولًا:

يستحيل أن يجعل الله للشيطان سلطانًا يؤذي “إيذاءً ماديًا” رسله وعباده المؤمنين، وأولياءه الصالحين، فتدبر:

* “قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ – إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمْ الْمُخْلَصِينَ”

١- إن “التزيين” و”الإغواء” مما يمس “القلوب” وليس “الأجسام”، الأمر الذي تستجيب له وسائل الإدراك وهي تفسد في الأرض، وتظل “الأجسام” سليمة.
وتدبر قوله تعالى بعد ذلك ردًا على “إبليس”:

* “قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ – إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنْ اتَّبَعَكَ مِنْ الْغَاوِينَ”

٢- لذلك أقول:

إن القصص التي حملتها أمهات كتب الفرق الإسلامية وتحكي عن دور الشيطان في ابتلاء “أيوب”، عليه السلام، بابتلاءات “مادية” في ماله وزوجه وأولاده وجسمه، من “الإسرائيليات” التي اخترقت هذه الكتب، وخاصة كتب “المرويات”.

إن الذين يعتقدون أن الشيطان يملك “سلاحًا ماديًا” يُعذّب به من يشاء، ويُمتّع به من يشاء، استنادًا إلى نص قرآني، لماذا يغضبون من “الدجّالين” ويتهمونهم بـ “الشعوذة”؟!

إن “الدجال” يقتل المريض، الذي يَدّعى أن به “مسًّا شيطانيًا” ثم يقول إن “الشيطان” هو الذي قتله!!

ويزني بالمريضة، التي يَدّعى أن بها “مسًّا شيطانيًا”، ثم تذهب إلى أهلها وتقول لهم إن الشيطان جامعها، وجاء بما في بطنها!!

ثم يُبرّرون هذا “الكفر” بقولهم إن الله هو الذي أمد “الشيطان” بهذا السلاح المادي لينفذ مشيئته!!

٣- وأين نذهب بقوله تعالى:

* “مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ . الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ”

وقوله تعالى:

* “وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ”

إن الشيطان ليس له إلا “الوسوسة”، التي تحمل دعوة الناس إلى اتباعه:

* “وَمَا كَانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي”

إن كلمة “دَعَوْتُكُمْ” لا علاقة لها بـ “التأثير المادي” على جسم الإنسان، وإنما تتعلق بـ “الوسوسة”، ثم الإنسان هو الذي يقبل أو يرفض دعوة الشيطان:

* “فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ – مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ”

وها هو يظهر على حقيقته يوم القيامة:

* “إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِي مِنْ قَبْلُ – إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ”

ثانيًا:

لقد خص الله “أيوب”، عليه السلام، بنوعين من “الابتلاء”، أحدهما “نفسي” والآخر “مادي”، و”صبر” عليهما، حتى أصبح يُضْرب بصبره المثل.

١- “الابتلاء المادي”

لقد جاءت “الآيتان٨٣-٨٤” من سورة الأنبياء ببيان “أصل” الابتلاء الذي أصاب “أيوب” عليه السلام، ويبدو أنه كان عدة أمراض أمسكت بجسمه فترة طويلة.

ولم يشتك “أيوب” إلى الله، ولم يدعوه أن يشفيه، إلا عندما اشتد به المرض، ووجد أن “الشيطان” استغل ما أصابه من ضر، وبدأ يُزيّن له الجزع، الأمر الذي دفع “أيوب” إلى التضرع إلى الله:

أ- “وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ”

تدبر قول أيوب: “أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ”

ب- “فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرّ..”

وتدبر قوله تعالى: “فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ”

فما هو إذن هذا “الضرّ”؟!

٢- “الابتلاء النفسي”

لقد جاءت الآيات “٤١-٤٤” من سورة “ص” لتُبيّن لنا “الضرّ” الذي أصاب “أيوب”، وكيف استغل الشيطان هذا “الضرّ” لإغوائه.

يقول الله تعالى “الآية٤١”:

* “وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ”

# الـ “نُصْب”: التعب النفسي والغم الشديد، الذي أصاب “النبي أيوب” نتيجة ما أصابه من أمراض، كانت “عذابًا” يصاحبه في حياته.

# والـ “عَذَاب”: الألم الشديد الناتج عن الأمراض التي أصابت جسم “أيوب”، عليه السلام.

ونلاحظ أن الآية قد جمعت بين نوعي الابتلاء: النفسي “بِنُصْبٍ”، والمادي “وَعَذَابٍ”، لأنهما لا ينفصلان.

٣- ولا يقول قائل إن “الشيطان” هو الذي تسبب في “النُصب والعذاب”، حسب ما يُفهم من الآية:

“أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ”

ولكن السؤال:

هل “النُّصب والعذاب” من “الوسوسة”؟! يستحيل.

إذن فـ “النُّصب والعذاب” أصيب بهما “أيوب”، ثم استغلهما الشيطان في الإغواء، إلى درجة يُظن عندها أنه هو الفاعل، “مَسَّنِي الشَّيْطَانُ”.

وهذا من أساليب القرآن البلاغية التي جاءت آية سورة الأنبياء ببيانه، حيث أسند “المسّ” إلى “الضر”:

“أَنِّي مَسَّنِي الضُّرُّ”

فأصبح معنى “الضُّر”: النُصب والعذاب، لأنهما الماسان “أيوب”.

لقد استغل الشيطان طول فترة الابتلاء في إثارة الخواطر السيئة التي تجعل “أيوب” يسيء الظن بالله، فكيف يترك الله نبيه هكذا دون أن يرفع عنه هذا الابتلاء؟!

لقد أراد “أيوب” أن يغلق أمام “الشيطان” باب هذه “الوسوسة”، لذلك تضرع إلى ربه:

“إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِي الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ”

ثالثًا:

لقد استجاب الله لتضرع “أيوب”، عليه السلام، على النحو التالي:

١- قوله تعالى “الآية ٤٢”:

* “ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ”

و”الركض”: هو الضرب القوي السريع.

فركض “أيوب” برجله الأرض، فنبع “الماء” الذي أشير إليه باسم الإشارة “هَذَا مُغْتَسَلٌ..”، ولقد كان هذا “الماء” هو “الدواء”:

“هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ”

ووصف الماء بـ “بَارِدٌ” قد يشير إلى أن الأمراض التي أصابت “أيوب” نتج عنها “حمى”.

كما أن وصف الماء بأنه “شراب”، مع أن هذه بديهة، كان لبيان أن “الدواء والشفاء”:

للظاهر: بـ “الاغتسال”

وللباطن: بـ “شرب الماء”.

٢- قوله تعالى “الآية ٤٣”:

* “وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لأُوْلِي الأَلْبَابِ”

فبعد أن انقطعت العلاقات العائلية، والتواصل الاجتماعي، نتيجة لشدة المرض الذي أصاب “أيوب”، أعاد الله الأمور إلى أفضل مما كانت عليه.

ولذلك استخدم السياق عبارة “وَهَبْنَا لَهُ” بمعنى أعدنا له أهله، بل وزيادة مثلهم، رحمة من الله، ولتذكير أولي الأفهام الصافية أن يتأسوا بـ “أيوب” عند كل ابتلاء.

إن “نعمة الصبر”، التي تحلى بها “أيوب”، هي المحور الأساس الذي تدور حوله قصص الأنبياء، والتي بدأ الله بها السياق “الآية ١٧”، فقال تعالى مخاطبًا رسوله محمدًا:

“اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ”

٣- وتدبر قوله تعالى “الآية ٤٤”:

* “وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ – إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً – نِعْمَ الْعَبْدُ – إِنَّهُ أَوَّابٌ”

إنه التأكيد على نعمة الصبر: “إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً”

و”الضغث”: حزمة صغيرة من النبات.

“الحنث”: فعل ما حلف الإنسان على تركه، وترك ما حلف على فعله.

يبدو أن “أيوب”، خلال رحلة مرضه، كان قد أقسم أن يفعل شيئًا لم يذكره القرآن، وهذا ما نفهمه من جملة “وَلا تَحْنَثْ”.

لقد أراد الله ألاَّ يحنث “أيوب” في قسمه، وبيّن له كيف يحفظ قسمه بهذه الرخصة:

“وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَلا تَحْنَثْ”

أي ولا تحنث في يمينك فتأثم بترك ما حلفت على فعله.
آلاف الآيات يستحيل أن تُفهم بمعزل عن:

# علوم اللغة العربية

# منظومة التواصل المعرفي

ولذلك يستطيع أي غلام أن يفتح حسابًا، ويكتب منشورًا “واحدًا” يشتم فيها “البخاري”، أو “الكافي”، ويكفر فيه بهيئة الصلاة، وعددها، وعدد ركعاتها، بـ “صلاة الجمعة” المشار إليها في القرآن..، ولن يمر اليوم حتى نرى المئات قد سجلوا إعجابهم!!

“جُهَّال” يُضِلّون “الجهلاء” في عالم “الجهل” بـ «علوم اللغة العربية».

محمد السعيد مشتهري

أحدث الفيديوهات
YouTube player
تعليق على مقال الدكتور محمد مشتهري (لا تصالحوهم ولا تصدقوهم)
* خالد الجندي يتهم ...
محمد هداية لم يتدبر القرآن
لباس المرأة المسلمة
فتنة الآبائية
الأكثر مشاهدة
مواقع التواصل الإجتماعى