لماذا عجز “أهل اللسان” أن يأتوا بمثل سورة من سور القرآن؟!
هل لأنهم لم يكونوا على مستوى الفصاحة والبلاغة والنظم والأسلوب..، الذي يمكنهم من ذلك؟!
أولًا:
إن “البراهين” الخارقة للعادة، التي يجريها الله على أيدي أنبيائه تصديقًا لهم، وإثباتًا لحجية “نبوتهم” على الناس، والتي يسمّيها القرآن “آيات”، كانت من جنس ما برع فيه قوم كل رسول.
وإلا ما قامت على الناس الحجة.
ولقد كانت “الآيات”، قبل بعثة النبي الخاتم محمد، مقيدة بقيدين:
١- “آيات حسية”، تراها الأعين.
٢- تنهي فعاليتها بوفاة النبي.
ثانيًا:
ولقد بعث الله رسوله محمدًا بـ “آية عقلية قرآنية عربية”، تتفاعل معها “قلوب” الناس جميعًا إلى يوم الدين، بآليات التفكر والتعقل والتدبر والتفقه والنظر.
ولكن، كيف يحدث هذا التفاعل مع “قلوب أعجمية” لم تتعلم “لغة القرآن” ولا تفهم ما فيه؟!
هذا هو المحور الأساس الذي دارت حوله المنشورات السابقة، والذي أختصره في سؤالين:
١- هل هناك أي إشارة في القرآن، إلى قبول الله “إسلام” أتباع أي رسول، دون إقرارهم وتصديقهم بـ “الآية” الدالة على صدق “نبوة” هذا الرسول؟!
لم يحدث.
لأن شرط الإيمان بالله ورسله، الإيمان بصدق “الآيات” الدالة على صدق الله فيما أنزل، وصدق رسله فيما بلغوا.
٢- وإذا كان الذين آمنوا بصدق “نبوة” الرسل السابقين جاء إيمانهم بعد أن شاهدوا “الآيات الحسية” بأعينهم:
فكيف يشهد “الأعجمي” بصدق “الآية العقلية القرآنية العربية” وقلبه “أعجمي”؟!
ثالثًا:
١- لقد عجز أهل “اللسان العربي” أن يأتوا بمثل سورة من سور القرآن، وهم أهل الفصاحة والبلاغة، وبعجزهم هذا قامت الحجة عليهم، وعلى الناس جميعًا، حتى ولو كانوا فرسان البلاغة، وأرباب البيان، لقوله تعالى:
* “قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً”
٢- وإذا كانت “اللغة العربية”، كغيرها من اللغات، منتجًا بشريًا، فكيف ينزل بها قرآن يحمل “كلام الله”؟!
إن الله تعالى قادرٌ على تركيب وصياغة الجمل القرآنية بحُسن وبلاغة وفصاحة.. يعجز عن الإتيان بمثلها الإنس والجن.
ولذلك فإن ثبوت صحة نسبة القرآن إلى الله تعالى، لم يكن بسبب عجز أهل “اللسان العربي” عن محاكاة الآيات القرآنية والإتيان بمثلها، وإنما لاستحالة أن يكون “كلام الله” ككلام البشر.
رابعًا:
إن إثبات أن القرآن “حق”، يستلزم العلم بـ “لغة القرآن”.
فكيف يقف “الأعجمي” على دلائل الوحدانية التي حملتها آيات “الذكر الحكيم”، وتفاعلها مع “مقابلها الكوني” في الآفاق والأنفس، وهو لا يستطيع الوقوف على فعالية قوله تعالى:
* “سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ”؟!
كيف يدخل “الأعجمي” في “دين الإسلام”، وهو لا يعلم معنى “القسم” الوارد في قوله تعالى:
“حم . وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ . إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ”
لقد أقسم الله تعالى، أنه جعل “الْكِتَابَ الْمُبِين”، “قُرْآناً عَرَبِيّاً”، لقوم يعقلون.
فلماذا كان عليك أن “تعقل” أن “الكتاب المبين” هو ذاته “القرآن العربي”؟!
لأن الله تعالى يعلم، أنه سيأتي يوم، يخرج فيه على الناس، “ملحد” يقول لهم، إن “الكتاب” غير “القرآن”!!
إن “جعل” الله “الْكِتَاب الْمُبِين”، “قُرْآناً عَرَبِيّاً”، خير برهان على استحالة “فهم” آياته المكتوبة بـ “العربية”، والمقروءة بـ “العربية”، بغير اللغة “العربية”.
خامسًا:
إن القرآن ميسرٌ لمن فقه “اللغة” التي نطق بها “لسان النبي”، فتدبّروا يا من هجرتم “لغة القرآن”، قوله تعالى:
“فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً”
لقد فتح المسلمون بجهلم “لغة القرآن” أبواب “الإلحاد في آياته” على مصراعيها، والنتيجة لا تخفى على عدو ولا على حبيب!!
لقد أُسند الله فعل “تيسير القرآن” إلى ذاته “يَسَّرْنَاهُ”، وكرّر ذلك أربع مرات في سورة القمر، للتأكيد على أن هذا القرآن “مُيسّرٌ”، ولكن لمن؟!
هل للأعاجم الذين لا يعلمون “اللغة العربية” التي نزل بها؟!
إنه “مُيسّرٌ” لـ “المُدَّكِر”:
“وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ”؟!
ولم يقل الله تعالى إنه يسّره لـ “المُتَذَكِر”، لأن المقصود بيانه أدق وأبلغ من مجرد “التذكر”، الذي هو ضد “النسيان”.
إن أصل لفظ مُدَّكِر “مُذتَكر”، على وزن “مُفتعل” من “الذُكر” الذي هو “التفكر في الدليل”، وهو المطلوب بيانه في هذا السياق، الذي يحث الناس على تعلم “لغة القرآن” هذا إذا كانوا يريدونه مُيَسّرًا.
ولذلك نجد أن “المتقين” لا يفهمون إلا “لغة القرآن”، لأنها ميسرة لهم:
* “فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ”
أما “الملحدون” فـ:
“فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى”
لأنهم يُلحدون في آيات الله ويُحرّفون أحكامها.
والسؤال:
لماذا أعطى المسلمون ظهورهم لمسألة في غاية الأهمية، بل وأعتبرها القاعدة التي تقوم عليها “أصول الإيمان”، وهي اختيار الله لـ “اللغة العربية” لتكون وعاءً لكلامه الذي نزل به الوحي على النبي الخاتم محمد، عليه السلام؟!
إنها “الفريضة الغائبة” عن أصحاب التوجهات الدينية المختلفة، الذين ينطلقون في مشروعاتهم الفكرية من قاعدة الفرقة التي ولدوا فيها، باسم السلفية، أو القرآنية، أو العصرية.
سادسًا:
في سياق الرد على “الملحدين في آيات الله”، الذين قالوا في بداية سورة فصلت “الآية ٥”:
* “وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ، وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ، وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ، فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ”
والذين قال الله عنهم “الآية٤٠”:
“إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ”
والذين بيّن الله أنهم كفروا بـ “الذكر” الذي تعهد بحفظه “الآية ٤١-٤٢”:
* “إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ”
* “لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ..”
لقد كانت مشكلة هؤلاء، ادعائهم أن قلوبهم مغلقة لا تفهم القرآن، وأن آذانهم لا تسمعه، ويشعرون أن بينهم وبين القرآن “حجاب”.
لقد نزل القرآن يكشف عن طبيعة هذه القلوب “الملحدة”، ويُبيّن أن ادعاءهم يكون صحيحًا لو أن القرآن نزل بـ “لغة العجم”، فقال تعالى:
١- “وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآناً أَعْجَمِيّاً”
و”الأعجمي” غير “الفصيح” الذي لا يتقن اللغة العربية، سواء كان “عربيًا”، كمعظم العرب المسلمين، أو غير عربي.
أي لو جعلنا القرآن “أعجميًا”، غير مُبيّن لمقاصده، غير بليغ في أسلوبه ونظمه، لقال الذين كفروا من قومك يا محمد، هلا فصّلت وبيّنت آياته:
٢- “لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ”
أي حتى نفهمها؟!
فما الذي دعاهم إلى هذا القول، وأن قلوبهم في أكنة من القرآن، وقد نزل القرآن أصلًا بـ “لسانهم العربي”؟!
إنه ستارٌ يخفون وراءه كفرهم، وهي عادة الملحدين على مر العصور، يجادلون بغير علم، لذلك نراهم يقولون:
* “أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ”
إنه “الجدل العقيم”، الذي بيّنه الله في موضع آخر بقوله:
* “وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الأَعْجَمِينَ . فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ”
إنهم يطلبون أن ينزل القرآن بلغة “أعجمية” يفهمها العجم، وبلغة “عربية” يفهمها العرب!!
إنها نفس إشكالية أصحاب بدعة «القرآن وكفى»، وأصحاب بدعة «القراءات المعاصرة»، الذين يثيرون الشبهات حول «عالمية القرآن»، بدعوى أنه نزل بلسان قوم النبي «العرب»، فيكون للعرب فقط!!
ولذلك جاء الرد حاسمًا حاكمًا مبينًا:
* “قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ”
إن كلمة «هو» عائدة على «القرآن» الذي بين أيدينا اليوم.
ولكن أين الذين آمنوا، الذين كان القرآن لهم «هُدًى وَشِفَاءٌ»؟!
ثم من هم:
* “وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى”
تدبر :
لقد أسقط العمى على ذواتهم، لا على أبصارهم:
“وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى”
والله تعالى يقول:
“فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ”
إن “الإلحاد في آيات الله” لا يعمي البصر فقط، ولا يُمسك بـ “القلب” فقط، وإنما بـ “الجسد كله”، من أعلاه إلى أدناه.
وإن عمى “البصيرة” لا يقارن بعمى “البصر” أبدا.
محمد السعيد مشتهري