لقد بعث الله الرسل لهداية الإنسان إلى صراط الله المستقيم، وزوّده بالأدوات والإمكانيات التي تحقق له ذلك، فقال تعالى:
* «وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً»
* «وَجَعَلَ لَكُمْ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ»
* «لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ»
ولقد خلق الله كل عضو من أعضاء جسم الإنسان، راكعًا ساجدًا خاضعًا له سبحانه، ثم تأتي «البيئة» فتُشكّل هذه الأعضاء على نحو يجعلها إما أن تستمر في إخلاص عبوديتها لله، أو تكفر بالله.
أولًا:
إن «السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ» من وسائل الإدراك الرئيسة التي يحمل آلياتها القلب «المعنوي».
و«الفؤاد» هو المسؤول عن «آلية التعقل».
ولذلك عندما فرغ فؤاد أم موسى من «التعقل» كان الحل عند القلب لأنه جهاز التحكم، فقال تعالى:
* «وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغاً إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ»
* «لَوْلا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ»
ولقد خص الله تعالى «الفؤاد» بالذكر، لأنه المتحكم في جميع قرارات الإنسان التي «تنفذها أعضاء الجسم».
ولذلك سيكون «الفؤاد» أول ما تحرقه النار، فتدبر:
«نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ . الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الأَفْئِدَةِ»
إنه أسلوب «مجازي»، يشبه «النار» بالعاقل الذي يرى الأشياء ويطلع على ما فيها.
إن النار، بقدرة الله تعالى، ستحرق «الفؤاد» أولًا، لأنه مركز اتخاذ القرار، ثم تحترق «أعضاء الجسم» التي كان يستخدمها «الفؤاد» في معصية الله.
ثانيًا:
إن العقوبات المادية، التي نص عليها القرآن، تقع على الأعضاء التي عصت الله تعالى، سواء كان ذلك في الدنيا أو الآخرة.
ولما كان «الجلد» هو الوسيط الذي يجعل الإنسان يشعر بألم العذاب، جعل الله «جلد» الإنسان هو الذي يشهد عليه يوم القيامة:
* «وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا»
* «قَالُوا أَنطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ»
وهو الذي يجعل أعضاءه تتعذب في جهنم، فتدبر:
* «كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا»
لماذا؟!
* «لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ»
ولذلك كانت جلود المؤمنين، وأقصد أعضاء الجسم، تتفاعل مع ما يُتلى أو يُقرأ من آيات الكتاب، وإذا لم يحدث لها هذا التفاعل فهذا معناه أنها «جلد ميت»، فتدبر:
* «اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ»
* «تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ…»
ثم انظر وتدبر ماذا قال الله بعد ذلك، وعلاقته بما سبق:
* «أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ»
* «وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ»
فلماذا قال بـ «وجهه»؟!
لأن «الوجه» أشرف أعضاء الجسم الظاهرة، ولذلك كان «الوجه» هو أول شيء يخاف عليه الإنسان عند حدوث أي حادث له، فيجعل يده وقاية له.
لقد جعل الله الاتقاء بـ «الوجه» في قوله تعالى:
«أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ..»
كناية عن عجز الإنسان عن اتقاء سوء العذاب.
وتبدأ رحلة العذاب في الدنيا، عند لحظات الموت، فيقول تعالى:
«فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمْ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ»
ثالثًا:
معظم الناس لا ينظرون إلى أعضاء الجسم من منطلق أنها قائمة راكعة ساجدة..، تشهد بعبوديتها وخضوعها للذي خلقها، وإن كان صاحبها كافرًا بالله، لأن الله تعالى يقول:
«وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ»
من أجل ذلك فرض الله «هيئة الصلاة» على المسلمين خمس مرات يوميا، وكان على «المصلي» أن يعلم أن أعضاء جسمه تصلي معه، وهي تشهد في قيامها وركوعها وسجودها بخضوعها لله الذي خلقها.
وإن «الوجه»، الذي هو محل اتقاء العذاب في الدنيا والآخرة، يتدرج في عبوديته لله «قائمًا»، ثم «راكعًا» في اتجاه الأرض، ثم يلمس الأرض «ساجدًا» خاضعًا لله تعالى.
فـ «اخشع في صلاتك»، فأنت مراقب من جلدك، الذي سيشهد عليك يوم القيامة، فتدبر:
* «حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا»
* «شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ»
* «بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»
وهل يمكن لـ «جلد» أن ترتكب أعضاؤه «الفحشاء والمنكر»، وهو من الذين يقيمون الصلاة حق إقامتها، والله تعالى يقول:
* «إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ»؟!
إن «الفحشاء والمنكر» من عمل أعضاء الجسم، ولكنها تلعن صاحبها لأنه تعمل بأوامره، وليس باختيارها، وصاحبها لم يكن من المصلّين، فلم تتناغم أعضاؤه مع صلاته!!
رابعًا:
من أجل ذلك وجدنا أن «الصلاة» تُقرَن بـ «الزكاة» لاشتراكهما في تزكية «القلب»، خاصة وأن «الفؤاد» هو المسؤول عن اتخاذ القرارات التي ينفذها أعضاء الجسم.
إن حكمة اقتران «الصلاة» بـ «الزكاة» تتمثل في أنهما «عَيْن الخيرات»:
١- فـ «إقام الصلاة» يحقق صلاح النفس، لأنها:
«تَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ»
٢- و«إيتاء الزكاة»:
يحقق صلاح «المجتمع»، لأنها التطبيق «العملي» لمدى استعداد المسلم أن يُزكي نفسه ويُطهّرها، وخاصة ما يتعلق بـ «الإنفاق في سبيل الله»، أي بفريضة «الصدقة»:
«كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ»
٣- ولم يفرض الله «الصلاة والزكاة» على النبي محمد فقط، وإنما كانتا مفروضتين على جميع الأنبياء، فيقول الله تعالى:
«وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ»
لقد أوحى الله إلى أنبيائه:
١- «فِعْلَ الْخَيْرَاتِ»:
ونلاحظ هنا أنه سبحانه لم يقل «أَنْ يفْعَلوُا الْخَيْرَاتِ»، لأنه لو قال ذلك لكان موضوع الوحي عن «الْخَيْرَاتِ»، والخيرات مفعولة، وليست فاعلة.
ولكن المقصود بيان أن الوحي كان يُعلم الأنبياء «الفعل» نفسه، أي كيف يفعلون «الْخَيْرَاتِ»، لذلك قال:
«وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ – فِعْل – الْخَيْرَاتِ».
و«الْخَيْرَاتِ» تشمل كل ما يتعلق بإقامة «دين الإسلام» ملة وشريعة، فهي أشمل وأعم من «العمل الصالح».
خامسًا:
وخصّ الله «إقام الصلاة وإيتاء الزكاة» بالذكر من باب «عطف الخاص على العام»، للتنويه بفضلهما، فقال تعالى:
١- «وَإِقَامِ الصَّلاةِ» …. ٢- «وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ»
وهذا معناه:
(أ) أن «إقام الصلاة وإيتاء الزكاة» كانتا موجودتين عند أهل الكتب السابقة، وقد نقلت إلينا «منظومة التواصل المعرفي» أنهما ليستا كالمفروضتين على رسول الله محمد، من حيث الهيئة.
(ب) أن الله تعالى أوحى إلى رسوله محمد بكيفية أداء «الصلاة» المفروضة، لأنها من «فعل الخيرات»، بل هي عين الخيرات.
ولذلك، وفي ضوء ما سبق، يكون من الجهل، والعبث، والعشوائية، والهوس الديني، أن يقول قائل:
إن «إقام الصلاة» معناه «تلاوة» بعض الآيات القرآنية في يومك، و«العمل الصالح»!!
إنها «منظومة العبودية» لله تعالى، بدأت بالإقرار بـ «أصول الإيمان»، ثم الأمر بـ «فعل الخيرات»، ومنها إقامة الشعائر التعبدية لله وحده لا شريك له.
ولذلك بعد أن قال الله:
* «وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ»
قال تعالى:
* «وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ»
ويستحيل، كما يفعل الملحدون في أحكام القرآن، أن يُجمل ويختصر الله تعالى أصول الإيمان، وكل الشعائر والمناسك، وغيرها من أحكام القرآن، في عمل واحد يفعله المسلم كل يوم وهو:
أن يقرأ بعض الآيات القرآنية، ويعمل الصالحات، ولا يقترب من «هيئة الصلاة الحركية»، التي حفظها الله من عصر الرسالة وإلى يومنا هذا، لأنها كما يدعي الملحدون «صلاة وثنية»!!
إن الذين يقولون بهذا القول، يُشرّفهم أن يُوصفوا بـ «الجُهّال»، ولكن جهلهم هذا لن يكون لهم عذرًا يوم القيامة، يوم تشهد عليهم جلودهم بما كان يقولون ويفعلون غير ما أمرهم الله به.
محمد السعيد مشتهري