تعتبر فريضة «الزكاة» من القضايا التي يجب أن تكون تحت إشراف ولي أمر المسلمين، وهذا نفهمه من السياق القرآني عندما يوجه الله الخطاب إلى «النبي»، كقوله تعالى في مسألة «الطلاق»:
* «يا أيها النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ»
فقضايا «الطلاق» من بدايتها إلى نهايتها يجب أن تكون تحت إشراف مؤسسة تابعة للحاكم ولي أمر المسلمين مباشرة.
وجاء أيضا الخطاب للنبي بالنسبة لفريضة «الزكاة»:
* «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا..»
ولقد بيّن الله أن أموال الصدقة «حق معلوم»، فقال تعالى:
«وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»
والذي يحدد هذا «الحق المعلوم» مؤسسة تضم خبراء من كافة التخصصات الاقتصادية والمالية والاجتماعية كانت تسمى «بيت المال».
ويتغير هذا «الحق المعلوم» باختلاف قيم الأشياء واستحداث صنوف جديدة من الأموال، على مر العصور، لم تكن معروفة في عصر التنزيل.
ونظرًا لتفرق المسلمين إلى فرق ومذاهب عقدية متخاصمة، وغياب المؤسسة المسؤولة عن جمع أموال «الصدقات» وتحديد «الحق المعلوم» لتوزيعه على مستحقيه.
فإن المسؤول عن تحديد هذا «الحق المعلوم» اليوم هو المسلم نفسه حسب إمكاناته وظروف معيشته، مسترشدا بالنسب التي وضعتها الفرق الإسلامية، وحملتها «منظومة التواصل المعرفي».
# أولًا:
لقد ورد «الإنفاق في سبيل الله» في «الآية ٣» من سورة البقرة، حيث يقول الله في سياق بيان صفات «المتقين»:
* «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ»
إن كلمة «مما» عبارة عن «من»، و«ما»، وتُستخدم «من» لـ «التبعيض»، أي ينفقون بعضًا أي «جزءًا» مما رزقهم الله، سواء كانت تجارة أو وظيفة أو مهنة أو زراعة، ولو كان يوميًا.
١- «يَا أَيُّهَا الَذِينَ آمَنُوا أَنفِقُوا مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأَرْضِ…»
إن «الإنفاق» يكون من كل «مكسب طيب» يحصل عليه الإنسان.
٢- «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ»
إن فعل التلاوة «يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ» غير فعل الإقامة «وَأَقَامُوا الصَّلاةَ» غير فعل الإنفاق «وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ»
وعلى المسلم أن يستقطع «مال الصدقة»، الذي «يزكي» به نفسه، من كل «رزق» يحصل عليه، لأنه لا يعلم متى سيموت، فتدبر:
٣- «وَأَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ» – «مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ» – «فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ»
ونلاحظ أن «فَأَصَّدَّقَ» عائد على «الإنفاق»، والإنفاق «صدقة»، والاثنان «زكاة» تكون ثمرتها الصلاح «وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ».
٤- «وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ … كُلُوا مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ…»
«وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ» أي يوم نضوج ثماره وصلاحيتها للأكل.
# ثانيًا:
يجمع المسلم الأموال المستقطعة من كل «رزق» يحصل عليه، في «وعاء الصدقة»، أو ما يُسمى بـ «وعاء الزكاة».
١- «وعاء الزكاة» إذا نظرنا إليه بمنظار «التزكية»:
* «خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا»
* «وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى . الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى»
٢- «وعاء الصدقة» إذا نظرنا إليه بمنظار «المال» المنفق:
* «إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا..»
٣- ومن ثمار تطهير النفس وتزكيتها أن يُؤتي المسلم مال الصدقة وهو «راكع»، أي وهو في حالة انكسار وخضوع وتواضع:
«وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ»
٤- ولقد بيّن الله مظاهر هذا «الركوع» في كثير من الآيات، منها قوله تعالى:
* «قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى»
وقوله تعالى:
* «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالأَذَى»
# ثالثًا:
يبدأ المسلم صفحة جديدة:
١- يحسب كل ما يملكه من مال بقيمته الحالية، ولتكن «١٠٠٠٠ج»، ثم يستقطع منه نسبة «الزكاة»، ولتكن على سبيل المثال «٣٪»، فيصبح مال الزكاة «٣٠٠ج»، يوضع في «وعاء الزكاة».
هذا إذا كان المال لم تتم تزكيته من قبل، فإذا كان قد تمت تزكيته فليبدأ من الخطوة «٢».
٢- لقد أصبح ما تملكه الآن من مال، بعد استقطاع نسبة الزكاة، هو «٩٧٠٠ج»، وهذا المبلغ ليس عليه زكاة بعد ذلك، لا عندما يحول الحول ولا غيره، فقد تمت تزكيته.
٣- إذا كان ما تملكه وديعة في بنك، أو يستثمر في مشروع، وقد استقطعت نسبة الزكاة منه، تستقطع نسبة «الزكاة» بعد ذلك على «العائد» فقط، ثم يُضاف ما تبقى من العائد إلى المال الذي تمت تزكيته من قبل.
٤- بعد «تزكية» كل ما تملك من مال، وبعد وضع «مال الزكاة» في وعائه، عليك أن تُخرج «الزكاة» بعد ذلك على كل مكسب «رزق» تحصل عليه أولًا بأول.
وبذلك يصبح ما تملك قد تمت تزكيته أولا بأول، وفي الوقت نفسه يستفيد المستحقون للزكاة أيضًا أولًا بأول على مدار الـ «٢٤» ساعة، على أن يحكم هذه التزكية قوله تعالى:
«وَأَنفِقُوا خَيْراً لأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ»
رابعًا:
وهناك حقٌ آخر للمستحقين، يُستقطع مما تملكه، ولكن نسبته متروكة لتقديرك الشخصي، وفي ذلك يقول الله تعالى:
«وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»
وهذا الحق يُسمَّى في السياق القرآني بـ:
١- «العفو»، حيث يقول الله تعالى:
«وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ الْعَفْوَ»
٢- ويسمى «الخير»، حيث يقول الله تعالى:
* «يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلْ مَا أَنفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ»
* «فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ»
* «وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ»
ويصبح في بيت كل مسلم وعاءان لأموال الزكاة:
الأول: «وعاء الزكاة» المفروضة:
* «وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ . لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»
الثاني: «وعاء الزكاة» غير المفروضة:
* «وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ»
هذا عن قوله تعالى:
«خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا»
فماذا عن «وَصَلِّ عَلَيْهِمْ»؟!
للموضوع بقية
محمد السعيد مشتهري