لقد خلق الله الإنسان بحواس لا تدرك إلا عالم الشهادة فقط، فلزم الإنسان وسيلة تنقل له من «عالم الغيب»، ماذا أراد الله منه، فكانت «النبوة».
إن «النبوة» واسطة بين الله وخلقه، وليست مطبوعة في قلوب الناس، وإنما يصطفي الله لها من يشاء من عباده، ويؤيده بـ «الآية» الدالة على صدقه.
«وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآَيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ»
ويرسل الله «النبي» بآيتين:
الأولى: «المتلوة»
وهي كلام الله المعبر عنه بـ «الوحي»، و«القرآن»، و«الكتاب»، و«الحكمة»، و«الفرقان»، و«النور»… إلى آخره.
والثانية: «المشاهدة»
وكانت آيات «حسية» حتى بعث الله رسوله محمدًا فأصبحت هي «المقابل الكوني» لكل كلمة من كلام الله في هذا الوجود:
«قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً»
لقد جاءت آية النبي محمد «آية عقلية» تراها القلوب بآليات التفكر والتعقل والتدبر والتفقه والنظر..، ولذلك يستحيل أن تأتي نصوصها بأحكام مجملة، ثم لا يُبيّن الله كيفية أدائها للنبي، بطريق من طرق الوحي الثلاثة … يستحيل!!
# القاصمة «٨»
يقولون إن الله لم ينص على أن «جبريل» نزل ليعلم «النبي» كيفية أداء ما أجمله القرآن من أحكام، وفي مقدمة ذلك أحكام «الصلاة».
ويحسبون أنهم بذلك قد قصموا ظهر «الحق» الذي نقل للمسلمين كيفية أداء ما أجمله القرآن من أحكام، بالتقليد والمحاكاة، جيلا عن جيل، عبر «منظومة التواصل المعرفي».
# العاصمة «٨»
أولًا:
تعالوا أولا نبيّن كيف أن الذين يقولون:
«إن الله لم يُعلّم نبيه محمدًا كيفية أداء ما أجمله القرآن من أحكام»
كافرون بالقرآن الذي وصفه الله بهذه الصفات:
١- كلام الله:
«وَإِنْ أَحَدٌ مِنْ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ»
٢- من عند الله:
«وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ..»
٣- نزل على قلب النبي:
«قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ»
٤- تنزيل رب العالمين:
«تَنزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ»
٥- أمر من الله:
«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا ..»
٦- نزل بعلم الله:
«لَكِنْ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيداً»
٧- الملائكة لا تتنزل إلا بأمر الله:
«وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا..»
٨- جبريل رسول يحمل رسالة، لا يتعدى حدودها:
«إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ . ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ»
٩- رأى النبي «جبريل» وهو ينزل عليه بـ «الوحي»:
أ- «فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى . فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى»
ب- «مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى . أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى»
ج- «وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ . وَلَقَدْ رَآهُ بِالأُفُقِ الْمُبِينِ»
د- «وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى … مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى»
ثانيًا:
لقد كان «الوحي» يتنزل بصيغ مختلفة:
١- عن طريق الملك:
* «يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُوا أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ»
* «رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِي»
٢- النزول على القلب:
«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ . عَلَى (قَلْبِكَ) لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ»
وهذه الآية في غاية الأهمية، لمن يتدبرون القرآن.
فلماذا لم يقل الله تعالى:
«نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ . (عَلَيْكَ) لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ»
والإجابة نفهمها من خلال تدبر هذه الآيات:
أ- «أَفَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا»
ب- «فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ»
ج- «إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ»
د- «.. لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِهَا .. أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ ..»
وغير ذلك من الآيات الدالة على أن القرآن «علم» لا يفهمه، ولا يستنبط أحكامه، إلا أصحاب القلوب التي تحمل أدوات هذا العلم.
٣- المناداة:
أ- «وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ . قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا ..»
«وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنْ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ»
ب- وقد يكون النداء بحرف النداء «يا»، كقوله تعالى:
«يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيَى ..»
٤- الرؤيا في المنام
* «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ..»
* «وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ»
٥- العهد
«وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِي لِلطَّائِفِينَ..»
٦- التفهيم
«.. فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً..»
وكل هذه الصيغ يتنزل بها «الوحي» على الأنبياء بالطرق الثلاثة.
فلماذا حصروا «الوحي» الخاص برسول الله محمد على طريق واحد هو «الوحي القرآني»؟!
ثالثًا:
النص على وجود «وحي غير قرآني» كان يتنزل على النبي.
وتعالوا نضرب بعض الأمثلة:
١- «وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ»
لقد وعد الله رسوله أن يكون مصير إحدى الطائفتين لهم، وكان هذا بوحي «غير قرآني» ثم بلغ الرسول صحابته بأن النصر لهم.
٢- «إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا»
لقد حدث كلام بين الله ورسوله خلال هذه الرحلة لم ينزل به قرآن.
٣- «وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ..»
لقد أخبر النبي صحابته بما رآه في هذه «الرُّؤْيَا»، وسمع المشركون الخبر، فكان لهم فتنة، ولم يُصدّقوه.
٤- «لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ..»
لقد رأى النبي «رؤْيَا» تحققت، ثم نزل القرآن يشير إلى موضوعها.
٥- «وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَن بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»
لقد نبأ الله النبي بما حدث من أزواجه بـ «حي غير قرآني»، فتدبر:
«قَالَتْ مَنْ أَنبَأَكَ هَذَا» – «قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ»
رابعًا:
النص على أن الله يُعلم أنبياءه «عمليًا» ما أجملته «الآيات»، وقد ضرب لنا المثل بنبيه «نوح» عليه السلام.
«وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ . وَاصْنَعْ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ»
لقد علم الله نوحًا كيفية صناعة الفلك عمليًا، بقرينة «بِأَعْيُنِنَا»، وهي «استعارة» بلاغية ولا يراد حقيقة الأعين، ثم قال «وَوَحْيِنَا».
ونلاحظ أن الله تعالى قال للنبي محمد:
«إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ»
وكما هو معلوم أن «جبريل» يمكن أن يتمثل في صورة بشر:
١- «فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً…»
وقد أرسل الله الملائكة على هيئة بشر إلى إبراهيم، عليه السلام:
٢- «إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلاماً قَالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنكَرُونَ»
وأرسلهم إلى لوط:
٣- «وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ..»
وأرسل الله الملك إلى مريم:
٤- «.. فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً»
إذن فـ «جبريل» كان ينخلع من صورته الملكية، ويتمثل في صورة بشر، ليؤدي المهام التي كلفه الله بها.
فلماذا ينكر «الملحدون المتأسلمون» أن يُعلم «جبريل» النبي كيفية أداء ما أجمله القرآن من أحكام، بـ «وحي غير قرآني»؟!
لأنهم «ملحدون متأسلمون»!!
محمد السعيد مشتهري