لقد نزلت نصوص «الآية القرآنية» أولا على قلب النبي، بكلماتها ورسمها، وطريقة نطقها، وطُبعت في قلبه كما أرادها الله تعالى.
ولقد كان النبي يتلو ما كان يتنزل من قرآن على صحابته، ويأمرهم بتدوينه في الصحف، وأن يحفظوه في صدورهم.
ولقد تناقلت الأجيال هذا القرآن كما نزل على قلب النبي، ووصل إلى الناس بهذه الصورة التي بين أيدينا اليوم.
ولقد بيّنت في المنشورات السابقة، أن «جبريل» لم يكن يترك النبي إلا بعد التأكد من صحة ما نطق به من قرآن وما دونه في الصحف.
سابعًا:
# القاصمة «٧»:
يقولون إن قوله تعالى في سورة العنكبوت «الآية ٤٨»:
* «وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ»
برهان قطعي الدلالة، على أن الرسول لم يكن يقرأ أو يكتب، فيرد عليهم الفريق الآخر ويقولون:
إن الله قال «مِنْ قَبْلِهِ»، أي من قبل نزول القرآن، ولكنه قرأ وكتب بعد نزول القرآن من باب «المعجزة»!!
والحقيقة أن الآية لا علاقة لها مطلقا بما قال الفريقان!!
# العاصمة «٧»:
١- تعالوا نبيّن المقصود بـ «الكتاب» في هذه الآية؟!
لقد نزلت هذه الآية لتواجه الشبهات التي يثيرها المكذبون حول حجية كتاب الله، وصدق «نبوة» رسول الله محمد.
لقد واجهتهم بحقائق علمية ثابتة ثبوت الجبال، يعلمها المشركون والكافرون، وهي أن «النبي» لم يكن من علماء «أهل الكتاب»، ولا قرأ كتبهم، ولا خطّها بيمينه، فقال تعالى:
* «وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ»
إن الارتياب يحدث عندما لا تكون أمام الإنسان «حقائق» يستحيل إنكارها، وهؤلاء «الْمُبْطِلُونَ» يعلمون أن الله بعث رسوله محمدًا في قومه «المشركين» الذين لم يسبق أن أرسل إليهم رسولًا، فقال تعالى:
«لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ»
ولذلك سمّاهم الله بـ «الأُمِّيِّينَ»، لعدم اتباعهم كتابًا إلهيًا، فقال تعالى:
«هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ»
بل وسمى «النبي» نفسه بـ «الأمي» نسبة إلى قومه:
«فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ»
ولأن قوم النبي لم يسبق لهم أن اتبعوا كتابًا إلهيًا وصفهم الله بالغفلة، فقال تعالى لرسوله:
«لِتُنذِرَ قَوْماً مَا أُنذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ»
٢- فلا علاقة مطلقًا بيّن كلمة «الأمي» التي وصف الله به النبي «النَّبِيِّ الأُمِّيِّ» وبين مسألة هل كان «يقرأ ويكتب» لأن هذه مسألة أخرى، فأقول:
إن «النبي» كان يقرأ ويكتب، ولكن ليس استنادا إلى «الآية ٤٨» من سورة العنكبوت، بل وكان على قمة هرم «البلاغة العربية»، وإلا فأين نذهب بقوله تعالى:
* «إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ»
فهل الذين خاطبهم الله بقوله «لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» ليس منهم «النبي»؟!
إذن فلماذا يريدون أن ينفوا عن النبي صفة «التعقل»؟!
وعندما يقول الله تعالى:
* «كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ»
فهل الذين خاطبهم الله بقوله «لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ» ليس منهم «النبي»؟!
إذن فلماذا يريدون أن ينفوا عن النبي صفة «العلم»؟
٣- إن الذين يقولون إن «النبي» كان لا يقرأ ولا يكتب، يتهمونه بأنه «لا يعقل»، و«لا يعلم»، ويحسبون أنهم بذلك ينفون عنه ما أثاره المكذبون من شبهة أنه الذي كان يكتب القرآن!!
فأي شبهة هذه التي تقف أمام كون القرآن هو «الآية العقلية» الدالة على صدق «نبوة» رسول الله محمد، والتي قال الله عنها لرسوله:
«قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتْ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»
فهل استطاع أهل «اللسان العربي»:
«أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ»
وهم الذين وقفوا على قمة هرم الفصاحة والبيان، ولذلك جعل الله «آية» رسوله من جنس ما برعوا وأبدعوا فيه؟!
إذن فالقضية ليست في أن يكون «النبي» على قمة هرم الفصاحة والبيان مثل قومه، يحمل الأدوات التي تمكنه من أن يأتي بمثل هذا «القرآن العربي»، وإنما القضية في قوله تعالى:
«لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً»
أي أن القضية خارج حدود علم وقدرات الإنس والجن.
٤- ثم يستكمل سياق سورة العنكبوت آياته، وتأتي «الآية ٤٩» لبيان كيف تلقى النبي والذين آمنوا معه هذا القرآن، قبل تدوينه في الصحف، فقال تعالى:
* «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ»
فما هو المقصود بـ «بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ»؟!
المقصود بيان أن السبب وراء استحالة أن يأتي الإنس والجن بسورة مثل سور القرآن، أن القرآن «آيات»، وهل يستطيع أحد أن يأتي بمثل «آية الشمس»؟!
* «سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ»
* «حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ»
ولماذا «صُدُور الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ»؟!
لأن «الجُهّال» لا يحملون في صدوورهم «المنهجية العلمية» التي يستطيعون بها أن يفهموا «الآيات»، فتكون النتيجة أنهم يجادلون في آيات الله بغير علم، والله تعالي يقول:
* «مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ»
ويقول تعالى في سياق بيان «دلائل الوحدانية» في الآفاق:
* «إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ»
٥- ثم بعد ذلك يستكمل سياق سورة العنكبوت آياته، وتأتي «الآية ٥٠» لبيان تعنت المشركين وإثارتهم الشبهات حول مجيء آية النبي «آية عقلية»، وهم كانوا يريدونها «حسية» فقالوا:
* «وَقَالُوا لَوْلا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ»
* «قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ»
لقد كان المشركون يريدون «آيات حسية»، وقد سبق أن قالوا:
«وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنْ الأَرْضِ يَنْبُوعاً … وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَقْرَؤُه..»
فها هم يريدون أن ينزل القرآن من السماء على هيئة «كتاب»، فقال لهم لرسوله:
«وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ»
وتعتبر هذه الآية من البراهين «قطعية الدلالة» على أن القرآن لم ينزل على النبي صحفًا مكتوبة، وإلا ما طلبوا «كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ»، لأنهم يعلمون أن القرآن قد نزل أصلًا مكتوبًا!!
٦- ثم تأتي «الآية الأم» الدالة على أن البرهان على صدق «نبوة» رسول الله محمد هو «آية عقلية قرآنية»، وأن النبي لن يموت إلا بعد أن تكون نصوصها قد جُمعت في «كتاب»، فقال تعالى:
* «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ»
والسؤال:
أ- وهل كان «الكتاب» قد نزل كله حتى يقول الله «أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ»؟!
طبعا هذا باعتبار ما ستؤول إليه الصحف، التي دوّنها الصحابة تحت إشراف رسول الله.
ب- ثم لماذا قال تعالى: «يُتْلَى عَلَيْهِمْ»، ولم يقل «تتلوه عليهم»؟!
لبيان أن نصوص «الآية القرآنية» ستتلى على الناس إلى يوم الدين، لأنها «آية عقلية» وليست «حسية» تنتهي فعاليتها بوفاة النبي.
٦- علينا أن نعلم أن كلمة «كتاب» في السياق القرآني تشير إلى الصحف التي دُوّن فيها ما نزل من قرآن، باعتبار ما ستؤول إليه بعد جمعها في «كتاب»، طبعا قبل وفاة النبي.
كما علينا أن نعلم أن هذه الكلمات التي خاطب الله بها النبي:
«اقْرَأْ»، و«سَنُقْرِئُكَ»، و«فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ»
لا تفهم بمعزل عن «الآية ٥١» من سورة الشورى، التي هي مفتاح فهم مسألة «الوحي».
ولا تفهم بمعزل عن سياقاتها التي تعكس حالة التوتر التي كان عليها النبي عند تلقيه «الوحي»، وقال له الله ليزيل هذا التوتر:
* «سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنسَى»
ولا تفهم بمعزل عن آلية «الإقراء»، وقول الله للنبي:
* «فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ»
أي عليك أن تردد ما قرأناه عليك.
وهذا دليل على أن النبي لم يقرأ القرآن من صحف، وإنما كان يردد ما طبعه الله في قلبه، وكأنه يرى الصحف أمامه يقرأ منها، وذلك من باب طمأنته أن القرآن سيصل إلى الناس، بكلماته ورسمه، كما نزل على قلبه.
محمد السعيد مشتهري