إن مسألة هل كان النبي يقرأ ويكتب، أم لا، أصبحت الشغل الشاغل لكثير من الذين يُسمون أنفسهم بالمفكرين المسلمين.
ولا أدرى ما أهمية هذه المسألة «التاريخية» ونحن أمام «آية قرآنية» لا يصح إسلام المرء إلا بعد الإيمان بها اليوم، وليس الأمس؟!
ولقد دفع الخلاف حول هذه المسألة من لا علم لهم بـ «الأساليب البيانية» التي نزل بها القرآن، إلى الإلحاد في الآيات القرآنية، وتحريف كلماتها، من أجل إثبات أن الرسول كان يقرأ ويكتب.
وعليه قالوا:
إن القرآن نزل على هيئة صحف «مكتوبة» كان النبي يقرأ منها.
وطبعا يرد الفريق الآخر ويقول:
كيف يقرأ النبي من صحف مكتوبة وهو «أمي» لا يقرأ ولا يكتب.
وهذا المنشور لا علاقة له لا من قريب ولا من بعيد بهذه المسألة، فقد سبق بيان هذا الموضوع والرد على الشبهات المتعلقة به في كثير من المنشورات.
سادسًا:
# القاصمة «٦»:
إن أخطر ما أصاب تدين أصحاب القراءات القرآنية المعاصرة، وأصحاب بدعة «القرآن وكفى»، أنهم يذهبون إلى كل ما جاء به التراث الديني، وما جاء في القرآن من أحكام، ويشكّكون الناس فيه، أو يعملون على هدمه.
فعندما أجمعت كتب التفسير على أن رسول الله محمد كان لا يقرأ ولا يكتب، لا قبل البعثة ولا بعدها، ذهب هؤلاء إلى القول بأنه كان يقرأ ويكتب، وجاؤوا ببعض الآيات التي فهموا منها أن القرآن نزل مكتوبا، الأمر الذي يستلزم أن يكون الرسول على علم بالقراءة.
# العاصمة «٦»:
إن التعامل مع القرآن يجب أن يكون وفق «منهجية علمية» تحمل أدوات مستنبطة من ذاته، وعندما نريد دراسة موضوع معين، كموضوع «الوحي»، يجب أن ندرسه استنادا إلي جميع الآيات المتعلقة به، سواء ورد فيها فعل «الوحي» أم لا.
١- لقد ذكرت في المنشور السابق، أن طرق الوحي قد حصرها الله في «الآية ٥١» من سورة الشورى، ولم يتركها لاجتهادات وتكهنات المسلمين، كلٌ حسب هواه.
وعندما يقول الله تعالى في هذه السورة «الآية ٣»:
«كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ»
ثم يقول تعالى «الآية ٧»:
«وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا»
نلاحظ تكرار فعل «الوحي» في الجزء الأول من الآيتين، وأنه لا فرق بين الأنبياء في طرق الوحي غير اختلاف «اللغات».
إذن فقد نزل القرآن بـ «اللغة العربية» التي كان ينطق بها النبي قبل بعثته، وكان ينطق بها قومه، والله تعالى يقول:
«وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ»
والسؤال:
هل يُعقل أن يتعهد الله بحفظ الوحي بـ «القرآن العربي»، ولا يحفظ لغته العربية، ليخرج الملحدون اليوم يعبثون بأحكام القرآن حسب هواهم؟!
٢- يستحيل أن يُفهم من أي طريق من طرق الوحي الثلاثة أن النبي كان يقرأ القرآن من صحف كان ينزل بها «جبريل».
ذلك لأن «جبريل» كان ينزل بالقرآن مباشرة على قلب النبي، فإذا بالنبي، وبلغته العربية التي كان ينطق بها قبل بعثته، يقرأ ويفهم معنى ما نزل، وهذا ما أفاده قوله تعالى:
* «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ»
* «عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنْ الْمُنذِرِينَ»
* «بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ»
٣- لقد بدأت «الآية ٥١» من سورة الشورى بقوله تعالى:
«وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ»
ولقد جاءت جملة «يُكَلِّمَهُ اللَّهُ» في سياقها البلاغي المحكم، لبيان أن طرق «الوحي» عبارة عن إيصال «كلام»، وليس «صحفا»، وهذا الكلام هو الذي يُدوّن بعد ذلك في الصحف.
وهذه الطرق هي:
أ- «إِلاَّ وَحْياً»
– بأن يلقي الله كلامه على قلب النبي أو غيره، كأم موسى والحواريين، «من غير واسطة»، على نحو يكون معه المتلقي عالمًا «علمًا يقينيًا» بأن ما طُبع في قلبه هو من عند الله.
– وقد يخلق الله المخلوقات «ابتداءً» ببرنامج عملها، ويسمي الله ذلك «وحيًا»، كما أوحى إلى «النحل» برنامج عملها الدائم:
«وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنْ اتَّخِذِي مِنْ الْجِبَالِ بُيُوتاً..»
– ولم يرد فعل «أَلْهَمَ» في القرآن إلا مرة واحدة، ولا علاقة لها بطرق الوحي الثلاثة، فقد خلق الله «النفس» بـ «الفجور والتقوى»، وذلك من قبل أن يولد الإنسان، وقال تعالى:
«وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا . فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا»
فهذه هي الآية الوحيدة التي ورد فيها لفظ «الإلهام».
فمن أين جاء أصحاب بدعة «القرآن وكفى» أن معنى كلمة «وحيًا»، التي وردت في طرق الوحي، تعني «الإلهام الداخلي»؟!
ب- «أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ»
وهو أن يسمع النبي كلامًا ولا يرى مصدره، مع وجود قرائن دالة على «علم يقيني» بأنه من عند الله.
ج- «أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ»
والرسول هنا هو «جبريل»، يرسله الله إلى النبي، لينزل على قلبه القرآن، فيوحي إليه كلامًا يسمعه، وهو يعلم علمًا يقينيًا أنه من عند الله.
وهنا يجب أن نلاحظ جيدا، أن «العلم اليقيني» الذي يقذفه الله في قلوب أنبيائه، يصاحب جميع طرق الوحي، حتى لا يكون هناك أدنى شك في حجيته، وأنه من عند الله.
٤- وعلى أساس ما سبق بيانه من طرق الوحي، فإننا نلاحظ أن:
الطريق الأول:
وهو إنزال القرآن على قلب النبي لا علاقة له بالكتابة.
الطريق الثاني:
وهو سماع الكلام من وراء حجاب لا علاقة له بالكتابة.
الطريق الثالث:
وهو سماع الكلام عن طريق «جبريل» لا علاقة له بالكتابة، لأنه كان يتم بصورة مباشرة نحو قلب النبي.
لقد سمع النبي القرآن من «جبريل»، وطُبع ما سمعه مباشرة في قلبه، وبرهان ذلك بيان الله لحالة النبي وهو يتلقي القرآن عن جبريل، بقوله تعالى:
* «لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ»
* «إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ»
* «فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ»
* «ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ»
ويقول الله تعالى في سورة طه «الآية ١١٤»:
«وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا»
ولو كان النبي يتلقى القرآن مكتوبا، إذن فما الذي كان يدعوه أن يُعجّل به قبل أن يقضى إليه وحيه، مخافة نسيانه؟!
محمد السعيد مشتهري