نشأت في بيئة دينية علمية وسط مئات الكتب، وبين عشرات العلماء، فقد كان والدي الشيخ عبد اللطيف مشتهري، يعمل مديرًا عامًّا للوعظ بالأزهر، وإمامًا لأهل السنة والجماعة، ورئيسًا عامًّا للجمعيات الشرعية، للعاملين بالكتاب والسنة.
وعملت في مجال الدعوة الإسلامية بين طلاب الكليات المختلفة، فقد كنت رائدًا للجماعة الدينية، وكان لي درس ثابت بعد صلاة الجمعة، في مسجد الجمعية الشرعية بشارع الجلاء بقلب العاصمة، يحضره طلاب من مختلف الكليات والمعاهد العليا.
كنت داعيا سلفيًا، أنقل للناس ما حملته كتب التراث الديني من قضايا وأحكام وفتاوى، ثم في أواخر السبعينيات، ظهرت لي إشكاليات في التراث الديني الذي أنقله للناس، منها تناقضات الأحكام التي أصدرها فقهاء مذاهب أهل السنة والجماعة.
ثم في أوائل الثمانينيات، طلب مني الأستاذ عبد اللطيف الشريف، صاحب شركات الشريف للبلاستيك، إعداد موسوعة في المعاملات الإسلامية، فسعدت بهذا الطلب، إذ الاقتصاد هو العمود الفقري لأي حضارة.
وبعد مشورة لاختيار العلماء الذين ستطرح عليهم فكرة هذه الموسوعة للمشاركة فيها، وبعد قراءات في أمهات كتب التفسير والحديث والفقه، للبحث عن مرادفات المصطلحات التي استخدمها أئمة السلف، ومدى تفاعلها مع لغة العصر، قررت عدم المشاركة في إعداد هذه الموسوعة.
لقد وجدت نفسي أمام إشكاليات تتلخص في ما يلي:
أولا: أن أمهات كتب التراث الديني، لفرقة أهل السنة والجماعة، قد عالجت معظم المسائل الفقهية برؤى مذهبية، وأن معظم المعالجات الفقهية الخاصة بأحكام المعاملات المالية والتجارية لا تفاعل لها مع الواقع المعاصر.
ثانيا: نظرت في كتاب الله تعالى فوجدت أن الآيات الخاصة بالمعاملات المالية والتجارية لا تتعدى بضع آيات، تضع الأصول العامة لها، ثم نظرت في كتب الفقه والأحاديث المنسوبة إلى رسول الله، فوجدتها تعكس طبيعة المعاملات التي كانت سائدة في عصر التدوين، وأحكامها من وجهة نظر إمام المذهب.
ثالثا: وجدت أن بعض الحرام عند مذهب حلال عند آخر، وذلك في المسألة الفقهية الواحدة، فانقسم المسلمون إلى فريقين: فريق يؤمن بحلِّها فيفعلها، وفريق يؤمن بحرمتها فلا يفعلها، إذن فلماذا نشغل المسلمين بفقه السابقين، والحكم في مسألة بفعلها أو عدم فعلها سواء؟!
رابعا: أن المسلم الذي يريد أن يعلم أحكام المعاملات المالية والتجارية، في عصر الانفتاح الاقتصادي والعولمة، والثورة المعلوماتية الهائلة، وشبكة الاتصالات المفتوحة، وتحديات أساليب التجارة العالمية، هل يمكن أن نقول له عليك بأئمة السلف فستجد عندهم حاجتك؟!
خامسا: إذا كانت الأحاديث المنسوبة إلى النبي هي السنة النبوية المبيِّنة للقرآن والمكملة لأحكامه، إذن فلماذا لم يكتف أئمة السلف بمتون هذه الأحاديث للوقوف على أحكام الشريعة.. هل كانت في حاجة إلى فقه أئمة السلف لبيانها، ليصبح البيان لهم وليس للنبي؟!
سادسا: هل المفسرون والمحدثون والفقهاء أولى من رسول الله، لتكون لهم مؤلفاتهم في بيان سنته، وصاحب السنة ليس له مؤلف محفوظ بحفظ الله تعالى، أنظر فيه اليوم لأتعرف على حقيقة سنته، من خلال خطابه المباشر للمسلمين، بعيدا عن مذاهب علماء الحديث في الجرح والتعديل، والتصحيح والتضعيف؟!
سابعا: وجدت أن أحكام المعاملات المالية والتجارية في الشريعة القرآنية أبسط من ذلك بكثير، فالقواعد العامة لهذه المعاملات قواعد أخلاقية، تضمن السلامة والنجاح والرقي والتقدم لأي نظام يقوم عليها في أي عصر، فالتقوى والخشية والعمل الصالح، والحكمة، والإيثار والكرم، ورفع الضرر ..، كلها أخلاقيات جاءت لتحكم تعاملات الناس في كافة مناحي الحياة.
وبعد هذه الرحلة العلمية، عدت إلى صديقي اعتذر له عن مهمة إعداد هذه الموسوعة، ونقلت له خلاصة ما ظهر لي من إشكاليات، ليس في فقه المعاملات فقط، وإنما في الفقه الإسلامي بوجه عام، وليس في التراث الديني لفرقة أهل السنة والجماعة فقط، وإنما عند جميع الفرق الإسلامية، واعتذرت عن درسي الأسبوعي.
لقد قررت أن أبدأ الطريق من أوله، فتفرغت لدراسة القرآن وتدبر آياته، واستعنت في ذلك بمنهج البحث العلمي الذي تعلمته في دراساتي الأكاديمية، فتوصلت إلى أن أحكام الشريعة الإلهية يجب أن تكون قطعية الثبوت عن الله تعالى، الأمر الذي لا يتحقق إلا من خلال مصدر صحت نسبته إلى الله على وجه اليقين، فكان هو القرآن، الذي حمل الآية الدالة على صحة هذه النسبة في ذاته.
لقد وجدت أن الذي يعيد قراءة القرآن قراءة إيمانية علمية، بنظرة حضارية، يستطيع أن يثبت للعالم أن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم، ويواجه التحديات العالمية بفقه قرآني يتفاعل مع متطلبات العصر، ويقيم موازين الحق والعدل بين الناس، ويثبت للعالم أجمع أن هذا القرآن يحمل الآية والمنهج، الآية الدالة على أن محمدًا رسول الله، والمنهج الذي يُجمِّع المسلمين ويوحد كلمتهم، على الدين الذي ارتضاه الله لهم، وليس الدين الذي ارتضته لهم مذاهبهم الفقهية والعقدية.
لقد حذر الله تعالى المسلمين المؤمنين من التفرق في الدين، وجعل هذا التفرق بابًا من أبواب الشرك بالله، وذلك بنص آيات سورة الروم «٣٠ – ٣٢»، ومن هذا المنطلق، ومنذ أوائل الثمانينيات، وأنا أدعو المسلمين إلى الإسلام الذي كان عليه الرسول وصحبه الذين رضي الله عنهم.
وهذا الموقع، وما فيه من موضوعات «لم تكتمل بعد»، هو مشروعي الفكري، الذي صنعته بيدي، بعد رحلة علمية من الإيمان الوراثي إلى الإيمان العلمي.
وأسأل الله أن يُعينني على إتمام ما بدأت، وأن ينفع به المسلمين جميعًا.
محمد السعيد مشتهري